كان جيروم غارقًا في عمله مع الجمجمة الأولى، عندما دق جرس الباب.
صوت الأجراس اللعين هذا يتردد في أرجاء البيت ذي الطابقين.. وعندما أزاح ستار النافذة لينظر لأسفل رأى الفتاة ذات المعطف الأبيض والحذاء ذي العنق واقفة هناك.. شعرها يتطاير مع الريح، بينما الموج يضرب الشاطئ فتحلق النوارس.. هذه سامانتا طبعًا..
نظر إلى الجمجمة.. نظر إلى الفوضى والنجمة الخماسية.. نظر إلى بقع الدم على الجدران. نظر إلى رأس أخته الموضوع في طبق، والذي يبدو كأنه لقطة من لوحة رافائيلية مخيفة.. سيكون من الصعب جدًا أن يسمح لها بالدخول هنا، ولو فعل فلسوف تشك كثيرًا.
الأسوأ ألا يسمح لها بالدخول وهذا سوف يزيد الأمور تعقيدًا..
في النهاية نظر لنفسه في المرآة وتأكد من أنه لا يبدو مريبًا.. ثم نزل لها عبر الدرج وهو يردد:
- أنا قادم..
يعرف هذه المواقف.. سوف تكون هناك بقعة دم كبيرة على قذاله أو ربما يتدلى شيطان من أذنه.. سوف ترى ذلك ثم تذهب لتبلغ الشرطة..
كان مولعًا بهذه الفتاة فعلاً.. لو تزوج يومًا فلسوف تكون فتاة حمراء الشعر مثل هذه.. والنمش!! حدثني أنا عن النمش الرقيق على الخدين يعطيها طابعًا صبيانيًا لا فكاك منه.. إنك تقع على الفور في حبائل هذه الفتاة حتى لو كنت عدو المرأة..
نعم كان مولعًا بسامانتا لكنه كان غارقًا في أعمال مهمة، وكان لديه الكثير مما يشغله عن موضوع الحب والأزهار والشعر وتكوين أسرة وكل هذا الكلام الفارغ.. عندما يفكر في هذا يشعر بأن له طابعًا أنثويًا لا يليق برجل..
وراء كل عظيم امرأة تخبره بأنه ليس عظيمًا لهذا الحد.. هذا صحيح.. لكن الأخطر أن وراء كل عظيم امرأة تحاول ألا تجعله عظيمًا..
كان يفكر في هذا وهو يفتح الباب.. ومن الباب تسرّب هواء البحر الكالح المبلل وتسرّبت هي..
قالت وهي تلثمه على خده:
- جئت أقتحم عزلة الراهب.. هل من أخبار؟
أمسك بأناملها برفق وقال:
- لا شيء.. عملية البحث عن إلهام قد تطول.. تطول.. هذا لا يقلقني على كل حال..
قالت في حذر:
- ما هي اللحظة التي تبدأ في القلق فيها، ويخطر لك أنه لن يكون هناك كتاب آخر؟
- ما دمت حيًا فاللحظة لا وجود لها..
كان يكذب..
الحقيقة أن هذه اللحظة جاءته منذ عام ونصف، وقد حاول كثيرًا.. كان يشد شعر رأسه بحثًا عن فكرة، وضرب رأسه مرارا في الجدار.. ولما أدرك أنه لا جدوى هنالك وأنه عقيم تماما علّق لنفسه مشنقة في الحمام وتسلّق وكاد يضرب المقعد..
ما حدث هو أنه سمع صوت أخته أماندا من الطابق السفلي.. كانت قد جاءت في هذه اللحظة بالذات، وعرف أنها ستنقذ حياته وأنه لن ينتحر.. ما هو أكثر أهمية هو أن أماندا كانت ترغب في الموت.. ترغب في الموت أكثر منه، وكانت ساحرة تمارس السحر وقرأت فيه الكثير.. هكذا وُلِدت الفكرة ببطء..
أماندا الآن لم يبقَ منها سوى رأس في طبق بالطابق الثاني، وعليه أن يتخلّص من سامانتا قبل أن..
- ماذا تريد أيها الغريب؟؟
جاء الصوت من الطابق الثاني عاليًا رفيعًا.. ثم جاء صوت أنثوي مماثل يسأل نفس السؤال..
كان يعرف مصدر الصوت.. الجماجم طبعًا.. لكن سامانتا لا تعرف ولا يجب أن تعرف.
قالت في دهشة وهي تنظر لأعلى:
- ما كان هذا؟
- لا بد أنه المذياع.. بل هو المذياع طبعا.. أنت تعرفين تلك التمثيليات السخيفة..
قالت في حيرة دون أن تبعد عينيها عن الطابق العلوي:
- لم أسمع قط تمثيلية يتلخّص حوارها في عبارة: ماذا تريد أيها الغريب؟!
كان يشعر بغيظ شديد.. لا يحب التذاكي ولا التدخّل في شئون الغير.. لسبب ما بدت له الفتاة سمجة جدا ولحوحا.. لذا قال لها في برود:
- ليس من عملي مراقبة التمثيليات الإذاعية التي يتلقاها مذياعي.
جلسا في غرفة الاستقبال وصبّ لها بعض الشراب، وهو يفكر في كيفية الخلاص منها.. في ظروف أخرى كان سيفكر في كيفية استبقائها، لكن اليوم يوم خاص..
- ماذا تريد أيها الغريب؟
تبًا! هذه الجماجم ثرثارة جدًا.. والمشكلة أن صوتها عال ومسموع بوضوح.. الفتاة تراقب المشهد في فضول..
هذه الجماجم ثرثارة جدًا (رسوم: فواز) |
دقّ جرس الباب من جديد فارتجف وذهب ليفتحه..
كان هذا ساعي البريد المسنّ يسعل كعادته، وقد جلب بعض الخطابات.. أخذها منه وشكره وراح يراقب الرجل يبدأ التحرك على دراجته العتيقة..
أغلق الباب وقال:
- كل الخطابات التي تصلني هنا فواتير.. لا أحد يعبأ بأن......
ثم نظر للخلف فأدرك أن الفتاة ليست هنا..
- سامانتا!!
بالطبع ليست هنا.. وبالتأكيد هي في الطابق العلوي تروي فضولها الأنثوي.. الفضول الذي عذب آدم منذ بدء الخليقة وجلب له الوبال.. ركض مسرعًا إلى الطابق الثاني وهو يرتجف.. قلبه يوشك على الوثب من فمه..
فتح غرفة المكتب.. هنا رأى سامانتا واقفة تنظر في هلع إلى الجماجم السبع.. كانت النافذة مفتوحة وشعرها يطير مع الهواء الثائر.. كانت تحاول الفهم.. لماذا فتحت النافذة يا ترى؟
التفتت له في رعب وقالت شيئًا.. ثم ابتعدت.. ابتعدت.. هنا اصطدمت بالمنضدة التي يضع عليها الصينية.. نظرت مدققة فأدركت أنها ترى رأس أماندا المقطوع وقد شخصت عيناها للسماء كأنها تصلّي..
أطلقت صرخة شنيعة وصرخة أخرى.. خارت قواها تمامًا فلم تستطع الفرار..
اللحظة التالية كانت على الأرض بينما جيروم يلصق شريطًا لاصقًا حول معصميها من الخلف.. ويقول لها:
- صه.. أنا لا أريد أن أؤذيك.. فعلاً لا أريد أن أخدشك.. لكنك تواجدت في المكان الخطأ والزمن الخطأ..
قالت في رعب ممزوج بالدموع:
- ماذا.. ماذا تفعل؟
قال لاهثًا:
- هذه تجربة.. تجربة معقدة تكلف الكثير من التضحيات، ولا أنوي أن أفسدها بصرخة هستيرية منك.. لهذا يجب أن أسدّ فمك بالشريط اللاصق.. أعرف أنك تعانين انسدادًا في الأنف، ومعنى هذا ببساطة أنك سوف تختنقين.. لهذا لن أسد فمك.. أتوقع أن تردّي لي هذه المجاملة.
هل أنت مجنون؟ سوف أصرخ وأصرخ حتى تأتي المملكة المتحدة كلها إلى هذا البيت..
قال جيروم وهو يقيد كاحليها معًا بالشريط اللاصق:
- لن يكون هناك صراخ.. أنت رأيت ما قمت أنا به وما ضحيت به.. معنى هذا أنني جاد جدًا، وأنني سوف أقطع لسانك لو صرخت.. أرجو أن تلتزمي الصمت وتراقبي التجربة في هدوء.
تجربة؟ أي تجربة؟
.......
يُتبع