هذا مقال قديم كتبته فى مجلة الشباب بعد ثورة 25 يناير، أعيد نشره مع بعض التغييرات.
عندما كنت فى الكلية كانت هذه المسرحية رائجة جدا ومفضلة لدى كل أندية المسرح الطلابية، والحقيقة أن الأخ بيتر فايس له شعبية خاصة عند الطلبة بهذا النوع من المسرح التسجيلى الذى يقدمه، وهو شبيه نوعا بمسرح بريخت.. هناك إصرار شديد على التغريب. بعبارة أخرى: جعل المشاهد لا يندمج مع المسرحية بأى ثمن.. لابد من أن يعرف المشاهد يقينا أنه يشاهد مسرحية.. لابد أن يعرف أن هذا البكاء غير حقيقى وهذه الضحكات غير حقيقية.. ربما وضع الممثلون الماكياج أمامه أو خرج مهندس الديكور ليضع قطعة أثاث مكان أخرى.. الغرض هو أن تفكر ولا تنفعل. أما عن موضوع المسرح التسجيلى هذا فهو موضة غريبة نوعا، حيث كان الممثلون فى (غول لوزيتانيا) يقرءون تقارير كاملة للأمم المتحدة وصفحات كاملة من الجرائد. الاسم الحقيقى للمسرحية هو (اضطهاد واغتيال جان بول مارا كما قدمته فرقة تمثيل مصحة شارنتون تحت إشراف السيد دى ساد)، وهو بالطبع عنوان مرعب، لهذا يفضل الجميع تسميتها مارا- صاد. الموضوع هو أن الماركيز دى ساد الأرستقراطى فيلسوف الألم، والذى قضى حياته يبشر بأن أروع شيء فى العالم هو أن تضرب حبيبتك وتدميها وتجلدها وتلسعها بالنار. هذا الدى ساد كان قد اتهم بالجنون وسجنوه فى مصحة شارنتون، حيث لم يكف عن الكتابة
عندما كنت فى الكلية كانت هذه المسرحية رائجة جدا ومفضلة لدى كل أندية المسرح الطلابية، والحقيقة أن الأخ بيتر فايس له شعبية خاصة عند الطلبة بهذا النوع من المسرح التسجيلى الذى يقدمه، وهو شبيه نوعا بمسرح بريخت.. هناك إصرار شديد على التغريب. بعبارة أخرى: جعل المشاهد لا يندمج مع المسرحية بأى ثمن.. لابد من أن يعرف المشاهد يقينا أنه يشاهد مسرحية.. لابد أن يعرف أن هذا البكاء غير حقيقى وهذه الضحكات غير حقيقية.. ربما وضع الممثلون الماكياج أمامه أو خرج مهندس الديكور ليضع قطعة أثاث مكان أخرى.. الغرض هو أن تفكر ولا تنفعل. أما عن موضوع المسرح التسجيلى هذا فهو موضة غريبة نوعا، حيث كان الممثلون فى (غول لوزيتانيا) يقرءون تقارير كاملة للأمم المتحدة وصفحات كاملة من الجرائد. الاسم الحقيقى للمسرحية هو (اضطهاد واغتيال جان بول مارا كما قدمته فرقة تمثيل مصحة شارنتون تحت إشراف السيد دى ساد)، وهو بالطبع عنوان مرعب، لهذا يفضل الجميع تسميتها مارا- صاد. الموضوع هو أن الماركيز دى ساد الأرستقراطى فيلسوف الألم، والذى قضى حياته يبشر بأن أروع شيء فى العالم هو أن تضرب حبيبتك وتدميها وتجلدها وتلسعها بالنار. هذا الدى ساد كان قد اتهم بالجنون وسجنوه فى مصحة شارنتون، حيث لم يكف عن الكتابة
البطل الثانى هو جان بول مارا الذى كان بطل الثورة الفرنسية قبل أن تلتهم الثورة نفسها ويدب الخلافة بين روبسبير ومارا ودانتون... كان مارا فى تلك الأعوام يجلس دائما فى حوض الاستحمام الشهير المليء بالكبريت بسبب مرض جلدى لعين أصابه، وهذا المرض كان يجعله يهرش دائما.. مشهد غريب طبعا أن ترى قائد الثورة الفرنسية جالسا يملى قراراته ويوقع أوراقه وهو عار فى بانيو. وفى هذا الوقت بالضبط كانت هناك فتاة مجنونة اسمها شارلوت كوردى، اعتقدتْ أنها جان دارك وأن الله يأمرها بقتل مارا.. هكذا اشترت سكينا ممتازة محترمة جدا واتجهت إلى حيث كان مارا يجلس فى البانيو فقتلته ليتلوث ماء الحمام بالدم.. هذا المشهد موضوع لوحة شهيرة جدا لديفيد موجودة فى بروكسل اليوم
المهم أن عمنا بيتر فايس التقط هاتين الشخصيتين الثريتين، وكتب مسرحيته التى خلبت لب الطلاب على مدى عدة عقود. لقد أعيد إصدار المسرحية مؤخرا عن هيئة قصور الثقافة وأقترح أن يقرأها من لم يفعل. وبصرف النظر عن الديكور البائس المصنوع من الورق المقوى وصفوف المخبرين وجنود الأمن المركزى الجالسين فى الصفوف الأولى، فإن المسرحية عندما عرضت فى الكليات كانت تحمل غالبا عيوب مسارح قصور الثقافة والأقاليم عامة، دعك طبعا من المخرجين الذين يصرون على وضع رموز لم يضعها المؤلف. مثلا يهتف الأبطال: «بالروح بالدم نفديك يا مارا». هذا إسقاط مذهل يعتقد المخرج أنه يمكن أن يشعل ثورة، ويوشك على أن يفقد وعيه طربا.. كل هذه العيوب المعروفة شوهت المسرحية قليلا لكن النص ما زال فى غاية القوة
الإطار العام لهذا العمل هو مسرحية داخل مسرحية.. تدور الأحداث بالضبط فى 13 يوليو 1800، تحت حكم بونابرت القمعى الذى استولى على الثورة بالكامل، حيث دى ساد يخرج مسرحية عن الثورة الفرنسية تنتهى باغتيال جان بول مارا. والممثلون هم نزلاء المستشفى.. مدير المصحة الأحمق يعتقد أنها مسرحية صحيحة سياسيا تتملق نظام بونابرت القمعى.. نرى المواجهة بين الثائر وبين المفكر المخبول.. إن مارا يمثل شيئا مهما.. يمثل أحلام الثورة التى أحبطت والثورة التى تتعثر، مع شعور الناس بخيبة أمل حقيقية. وفى بداية المسرحية نسمع هذه الأغنية الملهوفة من الناس:ـ
ـ«مارا.. فين راحت ثورتنا؟.. مارا.. ليه سكتت غنوتنا؟.. مارا.. مش قادرين نستنى.. لسه فقرا زى ما كنا..لسه الشعارات هيا حياتنا..لسه الأحلام هيا قوتنا..النهارده.. هات لنا بكره.. مش قادرين نستنى لبكره..»ـ
سبب أن العبارات مسجوعة هو أننى كنت قد شرعت فى تحويلها لنص شعرى بالعامية أيام الكلية، وهى محاولة لم تكتمل قط
إن مارا يشعر بالذنب والمسؤولية الهائلة تجاه هذه الجموع. لكنه عاجز عن عمل شيء وفى الوقت نفسه هو يعرف يقينا أنه سيموت
وفي أغنية جميلة فعلا يقول دى ساد لمارا إن الناس رفعت توقعاتها عاليا مع الثورة.. هناك الشاعر الذى يبحث عن قصيدة.. وهناك الترزى الذى يحتاج لخيط.. وهناك الصياد الذى يريد صنارة وشبكة للصيد.. وهناك الزوجة التى تبحث عن زوج فارع الطول وسيم. كلهم توقعوا أن الثورة ستجلب لهم صنارة وخيطا وقصيدة وزوجا وسيما.. عندما يكتشفون أن الثورة لم تجلب شيئا من هذا وأن صناراتهم مكسورة وخيوطهم مقطوعة وقصائدهم مكسورة الوزن، والزوج ما زال فى الفراش يغط واللعاب يسيل من فمه، يكون غضبهم جهنميا. وبالطبع سوف ينصب على مارا
وفى أغنية أخرى يقولون: «الخنازير البرجوازية.. تشرب خمرة فى الفسقية.. واحنا نطاطى نبوس الطين!.. عاوز أفهم مين اللى خدعنا؟ مين بدد دمنا ودموعنا؟ أنا فلاح وسليم النية.. كل الناس دول ضحكوا عليا.. قالوا وقالوا مليون مرة.. احنا خلاص حققنا الثورة..»ـ
إن قوى الثورة المضادة التى خسرت الكثير بقيام الثورة قررت أن تعمل على تشويهها وتدميرها بأى طريقة، وعلى إثارة الفوضى فى الشارع.. وفى النهاية انتهى الأمر إلى أن يمسك نابليون بونابرت زمام الأمور. وكان هناك من حمدوا له ذلك باعتباره الحل الوحيد الذى ينهى الفوضى
فى مقطع آخر ترجمة الأستاذ يسرى خميس – الذى ترجم المسرحية عن الألمانية – يقول الدهماء:ـ
ـ«من يسيطر على الأسواق؟ من أغلق مخازن الغلال؟ من اعتقلنا بدون وجه حق؟.. حرب أهلية جديدة تشعلها الثورة المضادة.. لا شيء حتى الآن استفاده المعدمون من الأراضى الواسعة.. هل كافحنا من أجل حرية أولئك الذين ينهبوننا من جديد؟». طبعا فى نهاية المسرحية تقوم شارلوت كوردى بقتل مارا بطل الثورة كما توعدت منذ البداية
تطرح المسرحية عشرات الأفكار المهمة، وأعتقد أنه لابد أن نتذكرها اليوم فى هذا المنحنى الضيق الذى نعبره.. يجب أن نتذكر أنه كان هناك فى الماضى إعلان دستورى دكتاتورى، واليوم هناك قانون تظاهر يرفضه الجميع لكن الحكومة مصرة عليه. كان هناك حادث قطار شنيع، واليوم هناك حادث تصادم شنيع بعد عام بالضبط. كان هناك صفع فتاة واليوم هناك ضرب متظاهرات وسجن بالجملة. كان الإخوان يشتمون باسم يوسف بشدة، واليوم تم وقف باسم يوسف نفسه. كان لدينا قاض يستقوي بالخارج ويطالب أوباما بالتدخل، واليوم هناك من يستقوى بتركيا والولايات المتحدة. كنا فى أزمة بنزين واليوم نحن فى أزمة أنابيب غاز. كان هناك رئيس قيل إنه شد السلم كى لا يصعد أحد بعده، واليوم يمنعون المظاهرات.. أى السلم الذى جاء بالحكومة الحالية. كان هناك من يكفر الناس، واليوم جاء من يقول أن لهم ربا ولنا رب وإن روائحهم عفنة وقتلهم حلال. تسربت فى الماضى جلسة مغلقة عن سد النهضة، واليوم تتسرب عشرات الجلسات والهمسات عبر اليوتيوب. فيما مضى كان الكلام عن الولد الذى يتقاضى عشرين جنيها ليقطع الكهرباء ويشد السكينة، واليوم كلما انقطعت الكهرباء قيل إن الإخوان هم السبب. كانوا يتحدثون عن الاقتراض من قطر واليوم نتحدث عن الاقتراض من السعودية. كانوا يشتمون ناشطى 6 أبريل باعتبارهم علمانيين يحتجون على كل شيء، واليوم يعتقلونهم باعتبارهم خونة وصنيعة الغرب. كانوا يشتمون البرادعى واليوم يشتمون البرادعى كذلك!. باختصار لم يتغير شيء تقريبا سوى تبادل الأماكن، وسوى الآلاف الذين قتلوا وأغرق دمهم الشوارع، فلم يستفد أحد شيئا سوى الداخلية التى تضخمت قوتها، ولم يعد هناك سقف لتعاملها من أى نوع، وهأنتذا ترى الرجال الأشداء بالثياب السوداء والأقنعة والدروع، فتحسب أنك ترى مشهدا من فيلم حرب الكواكب، حتى لأتوقع أن يظهر دارث فيدير فجأة بقامته الفارعة وعباءته السوداء.. يشق الطريق وسط جنوده ودخان الغاز المسيل بالدموع.. ليقول بصوته المتحشرج: «انتصرنا وعدنا لحكم الامبراطورية!»ـ