سقيا لتلك الحقبة التي ساد فيها شريط الفيديو وأندية الفيديو. كنت قد اشتريت أول جهاز فيديو في حياتي -بالتقسيط طبعًا- ووضعته في أهم ركن بالبيت، ثم ذهبت لنادي الفيديو لأستأجر تلك الأحلام المعبأة في شرائط. البائع البشوش يقف ليحدثك عن كل فيلم كأنه ناقد سينمائي، وخيبة الأمل عندما تكتشف أن وغدًا ما أخذ الفيلم الذي تريده ولم يرجعه بعد. لماذا يشاهد الناس الآخرون الأفلام؟. تبًا لهم!. أليس لديهم ما يشغلهم؟. الانتظار والقلق والعودة ليلاً لتسأل عن ذات الفيلم، فإذا كان صاحب النادي صديقك خبأه لك في درج جانبي، تأخذه وتهرع مغادراً المكان كأنك تحمل شحنة مخدرات. صوت الشريط وهو يدخل جهاز الفيديو كأنه رضيع متلهف لحضن أمه. علامة الشركة المنتجة. الأفلام القادمة. لو كان الشريط جديدًا فلن تعاني مشكلة القاذورات التي تتلف رأس الجهاز المغناطيسي. هذه كانت أيامًا سعيدة فعلاً، ولهذا كان يجب أن تنقرض. اختفى هذا الاختراع بالكامل. عليك اليوم ان تستأجر قرصًا مدمجًا CD يتلف وتملؤه الخدوش بعد ربع ساعة من استعماله. تحاول أن تصلح الخدوش بمعجون الأسنان وهي طريقة لا تنجح أبدًا برغم أن النت تؤكد أنها فعالة. ليس هذا موضوعنا على كل حال برغم ما في ذلك من نوستالجيا.
أحد المنتجين الأذكياء -أو النصابين- قرر أن يكسب بعض المال، فطرح أفلام فيديو قال إنها مجسمة. وكان الفيلم يؤجر مع نظارة تجسيم تُباع بسعر باهظ. قلت لنفسي ربما. لكني ألقيت نظرة على الصورة من دون نظارة فأدركت إن الأمر مزحة سخيفة. لكي تكون الصورة مجسمة يجب أن تبدو مهزوزة تسبب الصداع من دون نظارة، أو تكون خليطًا من اللونين الأحمر والأخضر. هنا كانت صورة عادية جدًا. إذن التجسيم مستحيل.
واصل المنتج النصاب دعاباته فأظهر الشاشة مقسومة. على اليمين صورة وعل وعلى اليسار صورة وعل. ثم كتب على الشاشة: البس النظارة وشاهد الفارق بين الصورة اليمنى المجسمة واليسرى العادية!. طبعاً لا فارق من أي نوع. لكن الناس تحب أن تُخدع. هكذا فوجئت بصديق لي يقول في انبهار: فعلاً يا أخي. الصورة اليسرى مجسمة جدًا. قلت له: الرجل يتكلم عن اليمنى.
هذا نموذج ممتاز للطريقة التي يقنع الناس بها أنفسهم بأي شيء.
الحقيقة أن السينما واجهت تحديًا رهيبًا منذ ظهر التليفزيون. لقد صار الممثلون والقصة قادرين على دخول غرفة جلوسك، لتشاهد الفيلم مسترخيًا وأنت تتلذذ بتناول العشاء وتشرب مشروبًا باردًا وتدخن. ما الذي يرغمك على ارتداء ثيابك والبحث عن الحذاء تحت الفراش، وقيادة سيارة أو ركوب المواصلات في الزحام إلى السينما، حيث تجلس في مقعد في الظلام لمدة 3 ساعات؟
عندما تقرأ في تاريخ السينما تكتشف أن محاولات الإبهار لم تتوقف يومًا واحدًا، وأن نظام اﻵيماكس مثلاً قديم جدًا.
أقدم مثال في ذهني هو فيلم الوردة البيضاء عندما كانوا يقدمون لكل مشاهد يدخل السينما وردة بيضاء، وفوجئ الناس في أكثر من حفل أن عرض الفيلم توقف وارتفع الستار ليظهر عبدالوهاب نفسه ليقدم نفس الأغنية التي كان سيغنيها في الفيلم!
مثلاً هناك أسلوب السينراما والسينما سكوب. الغرض الأساسي كان تكبير الصورة وإذابة الحدود التي تنتهي عندها الشاشة يمينًا ويسارًا ليحس المشاهد أنه في قلب المشهد.
عندما قدم أبيل جانس فيلم نابليون عام 1929 (تأمل التاريخ المبكر) عرض الفيلم على ثلاث شاشات متجاورة. كان هذا حدثًا ضخمًا يضعك في قلب معارك بونابرت فعلاً. فيما بعد استعادت اليونسكو أجزاء الفيلم وعالجتها رقميًا وعرضت الفيلم عام 2004 بالضبط كما عرضه جانس عام 1929. هكذا يمكن قول إن جانس هو مبتكر السينراما.
تم تطوير فكرة الثلاث كاميرات أكثر عام 1952. لكن ظلت هناك مشكلة خطيرة هي تزامن آلات العرض الثلاث مع دقة بالغة في طبع الأفلام. أي خطأ سوف يؤدي إلى أن يظهر خط أسود بين الشاشات. او يظهر البطل على الشاشة اليمني ثم يتكرر على الشاشة الوسطى.
بعد هذا ظهر حل أكثر شعبية هو السينما سكوب. أنت تعرفها. تذكر الشاشة العريضة التي عرض عليها فيلم (الناصر صلاح الدين) أو (وا إسلاماه). أول من جربها كان المخرج العظيم محمد كريم وقد حصل على العدسة العجيبة (هايبر جونار) -التي تضغط الصورة في الكادر العادي- بالإيجار من شركة فوكس للقرن العشرين، وقد صور بها فيلم دليلة لعبدالحليم حافظ. من انتقدوا الفيلم قالوا إن الكاميرا كانت مصابة بتصلب الشرايين ولم تكن تتحرك بتاتًُا كأننا نشاهد مسرحية. الحقيقة أنه كان خائفًا من تحريك الكاميرا لأن العدسة تسقط بسهولة ولو تحطمت لخربت شركة فوكس بيته.
بعد هذا تم تطوير الفكرة أكثر مع الفيستافيجان والألترا بانافيجان. الآيماكس الذي اجتاح مصر ليس سوى حيلة قديمة لجعل المشاهد يغوص في المشهد أكثر لدرجة تحسس الممثلين. أنا دخلته وشعرت انني أوشك على الاختناق. الشاشة تجثم على نفسي ولا أرى حدها العلوي. لا أرى السماء.
هذا عن شكل الشاشة وحجمها.
هناك ألعاب طريفة يجب ذكرها. مثلا (الواخز) هو كائن فضائي يتسلل لأجسادنا عبر أسفل العمود الفقري. هكذا قام أصحاب السينما التي عرضت فيلم الرعب هذا، باختيار بعض المقاعد في السينما ليزودوها بجهاز يطلق شحنة كهربية خفيفة في لحظة مثيرة من الفيلم. تصور صراخ النساء عندما يشعرن بأن الواخز يتسلل لأجسادهن!
تم التطوير في اتجاه آخر هو الأفلام ذات الرائحة Smellies. نعم. لا مزاح هنا. عام 1960 فكر العلماء في أن تكون الأفلام ذات رائحة. جميل أن ترى فيلمًا يدور في مرج أو له رائحة مارلين مونرو. كانت هناك طريقتان: طريقة إطلاق روائح من مضخات خاصة في قاعة السينما، وهذه الروائح تعمل طبق نظام كمبيوتر صارم. الطريقة الأخرى هي أن يحمل المشاهد دفترًا مرقمًا يحمل عدة روائح. ويتم شم كل جزء من الدفتر حسب سياق الفيلم. الفكرة جيدة لكن المشكلة أن زوال الروائح من جو السينما كان بطيئًا فعلاً لهذا كانت تختلط ببعضها، وكانت تصل للجالسين في البلكون بعد انتهاء المشهد. هناك طريقتا Smell-O-Vision وAromaRama. لكن الطريقتين فشلتا بسبب عدم حماس الجمهور. وحتى اليوم ما زالت هناك محاولات لإحياء هذه الفكرة مثل فيلم (الأطفال الجواسيس) لروبرت رودريجز الذي عرض مع دفتر روائح.
كنا نتكلم عن الإيحاء. هناك رجل ظهر على شاشة التليفزيون الأمريكي ليعلن أنه اخترع جهاز سمل أو فيجان الذي ينقل الروائح للمشاهدين للتليفزيون في بيوتهم. وقام بتقشير البصل وأعلن أنه سينتقل للمشاهدين عبر الجهاز. الغريب أن المشاهدين اتصلوا بالقناة يشكون رائحة البصل الخانقة في بيوتهم!. ولم يخطر لهم أن يلاحظوا أن هذا هو أول إبريل!
على مستوى الصوت جربت السينما كل شيء. الستريو والدولبي وأشياء أخرى يمكن لأي مهندس أن يحدثك عنها. لكن تجربة سنس ساراواند تستحق الإشادة. لقد شاهدنا في القاهرة فيلمي (الزلزال) و(جالاكتيكا). وكان تأثير موجات الصوت التي تهز المقعد رهيبًا. بالفعل أحشاؤك ترتج مع الزلزال.
ننتقل الآن إلى التجسيم.
كان أبي يحكي لي عن استمتاعه في طفولته بعروض السينما المجسمة في دمنهور مسقط رأسه، وكان يحكي عن النظارة ذات العدسة الخضراء والعدسة الحمراء. مما يدلك على أن الفكرة قديمة جدًا.
سعدت جدًا عندما رأيت لأول مرة تلك النظارات التي تعكس لك صورة مجسمة، وهكذا قرأت كثيرًا في موضوع التجسيم.
لا يمكن الشعور بالتجسيم إلا بعينين، ترى كل منهما صورة مختلفة قليلاً ويمزج المخ الصورتين ليحصل على مشهد مجسم. المشكلة هي أن توصل لكل عين الصورة التي يجب أن تراها.
أشهر طريقة وأسهلها هي طريقة النظارة. النظارة قد تكون ملونة. عدسة خضراء وعدسة حمراء. هكذا لا ترى العدسة الحمراء سوى المشهد المصبوغ بالأخضر والعكس. أنا رأيت فيلم (أطفال جواسيس) بهذه الطريقة، وشبكة النت مليئة بصور مماثلة.
النظارة قد تكون شفافة تعتمد على نظرية الضوء المستقطب. كل عين لا تستقبل إلا الضوء المستقطب في اتجاه عدستها سواء كان أفقيًا أو عموديًا. هذه هي طريقة العرض التي رأيناها في مصر. كانت هناك سلسلة أفلام مثل (هجوم على المتفرجين) و(بيت الرعب المجسم) حيث قصة الفيلم باختصار هي أشخاص يلقون أشياء على الجمهور! بعد هذا بدأت الفكرة تتطور ورأينا أفلامًا مجسمة بشكل أفضل وبذات تقنية الضوء المستقطب مثل فيلم (أفاتار).
مشكلة أسلوب النظارات هي أنك تصاب بصداع عنيف. لو نزعت النظارة ونظرت للشاشة لأصابك الهلع من الصورة المهزوزة هناك. ربما جعلك هذا تشعر بغثيان. الصداع هو ضريبة السينما المجسمة على كل حال.
هناك طريقة الشبكات، مثل الشبكة التي ابتكرها المهندس السوفيتي سيمون بافلوفتش، الذي ابتكر شبكة تمنع عن العين اليمنى ما يجب أن تراه اليسرى والعكس. هذا شيء معقد جدًا، لكن مشكلته هي أن المشاهد لا يحرك عنقه طيلة الفيلم.
في فرنسا صمم ف. سافوي شبكة مماثلة عرض بها فيلمًا مجسمًا عام 1946.
السينما علم وفن وصناعة. لا شك في هذا. لكن في النهاية تظل هذه التقنيات نوعًا من ألعاب الحواة أو عروض السيرك. المهم ما يقوله الفيلم نفسه وبعده الإنساني. كان شابلن يقول: أفضل تقديم وجه رجل يقلب فنجان شاي على تقديم بركان ينفجر.
شاهدت فيلم "أفاتار" في السينما فانقطعت أنفاسي انبهارًا. التجسيم المرعب وتقنيات الكمبيوتر والصوت الدولبي. كل هذا مذهل. لكن عندما عرض الفيلم في التليفزيون ماذا بقي منه؟. نفس قصة (الرقص مع الذئاب) بالضبط مع مستوى فني أقل. حتى الكائنات الفضائية بدت أقل مصداقية عندما فقدت تجسيدها.
لن تكف السينما عن محاولة جذبك لمغادرة بيتك، لكن ما يبقى في النهاية هو ماذا قال الفيلم وكيف تم تصويره وإخراجه، وماذا فعل الممثلون؟