فى هذا الأسبوع أتوقف مع خطابين أثرا فى كثيرًا ووجدتهما أفضل مما يمكن أن أكتبه، لهذا لن أبخل عليك بهما، بالإضافة إلى أن أخذ إجازة منى لمدة أسبوع أمر فائق الإمتاع طبعًا. الخطاب الأول كان تعليقًَا على مقال كاساندرا الذى نشرته منذ ثلاثة أسابيع هنا. وتحكى صاحبته عن ظاهرة غريبة هى تآكل الذكريات كأنها لم تكن.
صديقتى السورية المهندسة المفعمة بالمرح وحب الحياة. صديقة عتيدة هى، وقد كانت تدرس فى بولندا فى الفترة السابقة، ولن أذكر اسمها تحسبًا لما قد يسببه هذا لها من مشاكل فى وطن مثل وطننا لا يبتلع ولا يهضم كلمة (رأى) ..
تقول فى خطابها لاعبة دور كاساندرا أخرى:
«بعد أن بدأ الموت يستحوذ على تفكير الشباب ونمط حياتهم فالسيناريو القادم صار من السهل جدًا التنبؤ به، هل سنتكلم عن نوع من الحياة التى تعيش فيها مع الرصاص جنبًا إلى جنب وكأنه أسلوب حياة، أم عندما تفاجأ بسماعك أن أحدهم قد توفى لسبب طبيعى وكأنك نسيت أن الناس تموت لأسباب تختلف عن إطلاق النار أو الهاون أو البراميل؟. ستنقطع الكهرباء بالأيام وأحيانًا بالأسابيع، ستحاصر مدن ومحافظات كاملة بدون دخول وخروج أى مورد إليها، سيفُقد الماء نفسه فى بعض الأحيان.
الأهم من ذلك، سيصبح الموت حادثًا معتادًا جدًا ليس له تلك الأهمية، بمعنى أن حياتك أو حياة المحيطين بك قد فقدت أهميتها لدرجة أن ترى حدوث الموت فيها حادثًا طبيعيًا جدًا، أنت تخرج كل يوم لتواجه الموت من الصباح للمساء فهل تستغرب لقاءه؟ هل تستغرب لو لاقاه أحد تعرفه، ستصبح مصاباً بداء الاعتياد على المصائب. الأدهى من ذلك كله أنك ستتأقلم مع كل ماحولك، ستبحث عن موارد معيشة مختلفة وتحاول بشتى السبل الحياة، أنت لا تقاوم على الإطلاق فلا وقت لديك للمقاومة، أنت تتكيف وبالتكيف تزداد تشبثًا بحياتك الحالية، كلما فقدت عنصرًا بحثت عن بديل أو حل موارب للحياة بدونه، نوع الاستقرار الذى تعيشه هو استقرار البحث عن الموارد المختلفة والحلول الترقيعية هى الحلول التى ستتبعها أنت وأبناؤك فى العشرين عاماً المقبلة. البعض سيبدأ التفكير بأنه لا يستطيع إكمال هذه الحياة وسيغادر بطريقة شرعية أو غير شرعية إلى دولة أخرى (غير شرعية غالباً حيث ستبدأ الدول برفض وجودك على أراضيها وتبدأ بفرض الشروط على سفرك إليها)، سيبدأ الابتزاز المادى لتهريبك مع عائلتك بخدمة من مستوى الخمسة نجوم إلى بلد أوروبى (السويد غالبًا) وستدفع كل ماتملك من مال لشراء حلم قد يضيع مع اول موجة تضرب القارب
لماذا أكتب لك كل هذا؟ اليوم قابلت أختى المقيمة فى دولة السويد بعد أن استطاعت الوصول إليها مع عائلتها هرباً من الحرب فى سورية. كنت أتحدث معها عن وضع البيت والعائلة، لأفاجأ بأننا لا نملك إلا بضع ذكريات عن سورية كلها ذكريات عن الحالات التى روّعنا فيها بطريقة أو بأخرى، وبأننا لا نملك إلا الأخبار التى تجعلنا نتذكر الدمار والخراب فقط. نتذكر الحالات التى تعرضت فيها هى وابنتها للخطر، نفاجأ بأن مكان حضانة ابنتها القديم قد ضرب منذ وقت قليل، نسأل نفسنا سؤالا واحدًا: هل كنا نعيش؟
الغريب فى هذا أن الوضع كان مختلفاً مع بداية قدومنا، كنا نشعر بحنين إلى حياتنا «المعتادة» وإلى التفاصيل اليومية التى عشناها فى بلدنا، سألت صديقتى التى غادرت سورية قبل مغادرتى لها بعدة شهور إن كانت أحست بهذا الشعور وقالت بأنها تملك نفس الشعور، نفس الإحساس بأننا الآن لا نملك ذكريات عن سورية وبأنه من الصعب جدًا أن نتذكر موضوعًا ما إلا بجهد كبير، الغريب أننا كصديقتين نملك العديد من الذكريات المشتركة ولكن كأن ستارًا انسدل عن هذه الأحداث أو أن سواد هذه الأزمة فى سورية قد طغى على أى محاولة لاستخراج عنصر جميل من هذا المكان. أفكر فى دمشق الآن فأتذكر جداً الفترة الأخيرة التى كثيراً ما أذكرها كنموذج عن تدهور حال سورية وأتذكر تماماً الاستغلال البشع للناس من قبل التجار والغلاء الفاحش الذى كان يدفعنى أحياناً للاختناق، الذى جعلنى اسأل نفسى فى العديد من الأحيان عن فرصة الموظف الحكومى أو العامل اليومى أو الفقير الذى لا يملك عملاً فى الحياة فى هذه الدولة، ماهى فرصة ألا يتحولوا جميعاً إلى مجرمين أو قطاع للطرق وهل تستطيع أن تلومهم فى هذه الحالة؟ لا أعلم ما مدى قدرة مصر على إدراك المأساة الحالية قبل تكاملها لتشمل كل جوانب الحياة، ولتبدأ الكوادر بمغادرتها دون رجعة ولتتحول إلى بلدة تسيطر عليها الضباع البشرية، وتكون الدولة والقانون هى مجرد حبر على ورق، والحياة الخارجية لا تخضع سوى لشريعة الغاب. دمت بخير ودمت سالمًا ودمت بعيدًا عن الدم والمذابح»
هذا هو خطاب صديقتى المؤثر قوى العبارة، والحقيقة أن كل بلد عربى يترنح وسط الضباب الخاص به فى مشاكله الخاصة. لكن الوضع فى سوريا سيئ بما لا يقاس والدليل أن السوريين ما زالوا يلجئون لمصر. متى تنزاح هذه الغمة؟ ومتى نتذكر كيف كانت بلادنا قبل هذه الاضطرابات؟
صديقى الثانى مصطفى عادل –وهو أحد أصحاب مشروع تطوير التعليم الذى تحدثت عنه فى مقال سابق– لاحظ أن نغمة اليأس عالية جدًا فى مقال (صار هذا مملاً). بالفعل لا أنكر هذا يا مصطفى .. لعل سنى هى السبب، فبالنسبة لك كل شيء ما زال جديدًا يانعًا، أما أنا فقد قضيت سنوات عمرى الخمسين أرى البدايات الجديدة حتى بلغت روحى الحلقوم. يقول مصطفى فى خطابه الجميل:
«أقول لك، يا سيدى العزيز، يأسك يجب ألا يكون أبدًا شعارًا تعيش به. قد أشاركك بمنطق اليأس فى أن التغيير لن يحدث إلا بعد 20 سنة، الحق أنى أؤمن بذلك، ولست مضطربًا لذلك، ولا أسمى هذا يأسًا. يبدو أنك غفلت عن حقيقة كونية وهى أن الفشل مهما استمر ومهما أعقبه العديد من مراحل الفشل، فلا شك أنه سيكلل بنجاح فى النهاية. ما حدث فى 25 يناير ما هى إلا مرحلة تاريخية، عاشرها الكثير وعرف حقيقتها وحقيقة ما بعدها الشباب. شوهت واغتصبت، وقد تكتب كتب التاريخ توثق ما حدث بطريقة خاطئة، إلا أن الذاكرة تبقى، ومعاصرة الشباب ومعاناتهم لتلك الأيام ستبقى؛ ليرووها لأبنائهم. سيبقى لأبنائهم مخزون هائل من الحقائق على الإنترنت من فيديوهات ووثائق وحقائق سيكشفها الزمن لمن يريد أن يثور ثورة أخرى، أو لمن يريد أن يصلح الفساد. قد لا نعيش لندرك ذلك، وقد لا يعيش أبناؤنا ليدركوا ذلك، ولكن ثقافة ثورة 25 يناير بأهدافها السامية خلدت للأبد بالفعل، ولن تنجح محاولات الطمس الفاشلة المستمدة من 1954 فى إغفال حقائق رأت النور فى عصر النت، وفى عقول الملايين. قد تمحى أو تعدل ذاكرة إنسان إلا أن ذاكرة الأجهزة باقية. بصيص الأمل موجود، ينير الطريق للأجيال القادمة إذا سعوا للحقيقة. وسوف يسعون إن شاء الله للحقيقة.
برغم أن الأعمار بيد الله، إلا أن سيد حبارة سيموت، وسيتزوج رامى فى غرفة وصالة إيجار جديد، وسيُحرم من العديد من الوظائف الراقية بسبب «البشلة» على خده، سيعمل فى أحد المخازن. سينجب أحمد وفريدة، وسيخبرهم بما حدث لجيله وما عانوه، وكيف أن حقوقهم سلبت. سيشرح لهم كيف أن أحوالهم الرثة التى يعيشونها هى بسبب فشل ثورة جليلة كادت أن تجعل منهم أندلس أخرى. سيكبرون على هذه القيم وهذا التاريخ. سيثرون معرفتهم من الإنترنت وسيتواصلون مع كثير من أبناء جيلهم الذين نام أهلوهم فى الميدان، ثم فى السجون، ثم عُذِبوا، ثم عادوا إلى بيوتهم منكسين، سيعلمون الحقيقة. سوف يهبط أبناء رامى سلم العمارة بعد توديعه متجهين إلى الشارع. سوف يجتمعون هناك فى مكان ما، وبإذن واحد أحد سوف يأخذون حقوقهم»
فليمت سيد حبارة .. لا أعرف لماذا لا يموت أبدًا