تطفلت على تلك الورشة المخصصة لفنون الكتابة، والتى تعقدها الدكتورة غادة عبد العال –صاحبة كتاب ومسلسل (عايزة أتجوز)– مع بعض طلبة كلية الطب. طلبت غادة من الحاضرين أن يكتب كل منهم موضوعًا قصيرًا خلال عشر دقائق ثم يتلوه علينا. كان الموضوع الأول محزنًا فعلاً يدور حول احتضار العمة .. وهو موقف مرت به الطالبة الكاتبة فعلاً. الموضوع الثانى يدور حول حادث يفتك بأسرة .. الموضوع الثالث يصف وفاة أم .. الموضع الرابع .... ... بعد دقائق فطننا لحقيقة مخيفة؛ هى أن 80% من المواضيع التى كتبها هؤلاء الشباب الذين لم يتجاوزوا العشرين يتعلق بالموت والاحتضار ولوعة الفراق.
تذكرت مشهدًا ظريفًا فى فيلم (أحدهم طار فوق عش المجانين) عندما اكتشف جاك نيكلسون أن الشاب الذى يكلمه إنما دخل المستشفى القمعى بإرادته، فيقول له ما معناه: «وماذا تفعل هنا أيها الأحمق التعس؟؟ شاب فى مثل سنك كان سيركب سيارة مكشوفة، ويجوب الريف يصطاد الحسناوات!».
فى سن كهذه هناك ألف شيء لابد أن يشغل عقل الشاب عدا الموت ووصف الاحتضار.
هناك شيء ما غير صحيح. سيكولوجية الشباب تغيرت فعلاً، وقد فسر لى أحد الطلبة الجالسين الأمر بأن الموت صار فى كل مكان وكل وقت، حتى صار أمرًا معتادًا، وضيفًا لا يُمَلّ فى كتابات وأفكار الشباب.
الموت فى كل مكان .. وهى نتيجة متوقعة لكل ما يحدث، ولأن الجميع فشل فى فهم مقولة لا تفشل أبدًا هى (العنف لا يجلب إلا العنف).. الكلام هنا للطرفين معًا.. الطرف الذى يطلق الرصاص على الشباب فى المظاهرات، والطرف الذى يطلق الرصاص على مجند الشرطة الغلبان الواقف فى كمين، وبرغم أن كل طرف يصر على أن الآخر هو الذى يطلق الرصاص فعلاً، ويشتم من يقول العكس..
فى الأساطير الإغريقية هناك شخصية اسمها (كاساندرا)، تكلمت عنها من قبل. كانت كاساندرا هى ابنة بريام حاكم طروادة التى عشقها أبوللو .. لما رفضت حبه، لعنها بلعنة غريبة، هى أنها تتنبأ طيلة الوقت لكن لا أحد يصغى لكلامها، ولا هى قادرة على تغيير المستقبل. إنها تكرر نفس فكرة بيت الشاعر الجاهلى دريد بن الصمة:
«أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ..فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد».
أو وصية هـ. ج . ويلز الذى أوصى أن يكتبوا على شاهد قبره عبارة واحدة: «لقد أنذرتكم يا أغبياء!»
تنبأت كاساندرا بالكثير، لكن لم يصغ لها أحد.. لدرجة أنها أنذرت قومها بأن الإغريق يختبئون فى حصان طروادة الخشبى وسوف يذبحونهم عندما يأتى الليل، لكن لم يجد كلامها نفعًا ... هذا عذاب شنيع يفوق أى عذاب يمكن تخيله. أن ينفجر رأسك محذرًا مما تراه حتميًا بلا جدوى. كانت لدينا (كاسندرات) كثيرات تنبأن بما سيحدث لكن أحدًا لم يصغ لهن وسط اندفاع قطار الجنون، وما زال القطار مندفعًا.
الموت والعنف فى كل مكان. عندما يصدر حكم بالإعدام على 528 متهمًا فعليك أن تتساءل.. تتذكر محاكمة نورمبرج التى عقدت لمحاكمة النازيين الذى قتلوا الملايين، وبرغم هذا استغرقت المحاكمات عامًا كاملاً ولم يُعدم سوى 13 واحدًا. هنا فى جلستين يتم الحكم بإعدام 528 متهمًا . لا شك أن الجريمة مروعة لكن هل اشترك الخمسمائة واحد فى القتل فعلاً؟ .. إذن نحن أمام نسخة أخرى من رواية (قتل فى قطار الشرق السريع) لأجاثا كريستى حيث تبين أن القاتل هو كل المتهمين فى القصة! وبرغم هذا كان عددهم اثنى عشر فقط!. هل هناك مجزر قام بذبح 528 دجاجة مرة واحدة؟.. ومتى وجد القاضى الوقت ليقرأ أوراق القضية ومتى وجد الوقت ليتلو أسماء المتهمين؟ لا نعترض على الحكم لكننا نتساءل..
لا أدرى لماذا تذكرت جمهورية غينيا الاستوائية التى يعتبرونها أكثر دول أفريقيا ثراء بالنفط، وكذلك أكثرها فسادًا.. هى ضمن أعلى عشر دول فسادًا وأعلى خمس دول قمعًا للصحافة. الرئيس الغينى الاستوائى (تيودورو أوبيانج مباسوجو) تولى الحكم بعد ما تخلص من عمه عام 1979 وأعدمه .. العم نفسه أعدم 150 من معارضيه فى مرة واحدة فى الاستاد، بينما السماعات تردد أغنية (ميرى هوبكنز) الرقيقة: « تلك كانت هى الأيام يا صاحبي..!». هذا أول إعدام شاعرى سمعت عنه فى حياتي...
لا أعتقد أن هذا الحكم –المصري– سينفذ.. الحياة لم تصل لهذه الدرجة من القسوة والأرض لا تتسع لكل هذا الغل. لكن هناك بالتأكيد محاولة جهيدة من أطراف عدة لإلحاق مصر بركب الدول المتحضرة مثل كوريا الشمالية وغينيا الاستوائية. لا شك فى هذا، كما أن فكرة المؤامرة الدولية التى تسيطر علينا تجعلنا لا نبالى بتاتًا برأى العالم فينا، على طريقة «احنا كده واللى مش عاجبه يشرب من البحر».. أمس علاج الإيدز والفيروس سى، واليوم هذا الحكم الجماعى الذى اهتزت له المحافل الدولية. لماذا اهتزت؟.. لأنهم يتآمرون على مصر طبعًا.
وما دام القصاص حاضرًا وقويًا بهذا الشكل، فماذا عن شهداء الثورة؟.. ماذا عن الفتى الذى رأيناه يفتح صدره فى الاسكندرية فيطلق عليه مجند الشرطة النار كأنه كلب؟.. أزعم أن بوسع أى تحقيق جاد معرفة هذا المجند خلال ربع ساعة .. من كان هناك فى هذا المكان وقتها؟.. شريط الفيديو موجود.. ماذا عن السيارات التى داست فوق المتظاهرين؟.. ماذا عن سجناء عربة الترحيلات؟. وماذا عن مهرجان البراءة للجميع حتى ليوشك أهل الشهداء على أن يُعدموا؟..
تتكرر فى طنطا مؤخرا ظاهرة حرق سيارات الإخوان أو من أيدوهم ذات يوم .. فلماذا لا نسمع عن هذه الحوادث ومن فعلها؟ وماذا عن حرق صيدلية يملكها صيدلى إخوانى؟.. لا تقل لى الإخوان عملوا كذا وكذا فالإعلام يعج بهذه الأخبار .. العدل يقضى بأن تخبرنا بكل دقيقة يفعلها الإخوان، وكل دقيقة يفعلها أعداء الإخوان؛ لأن هذه دولة متحضرة وليست (كفرة السلخانة).
احتقان وشعور مزمن بالافتقار للعدل. وهذا لن يقود إلى أى خير. هذا ما تقوله كاسندرا وتراه رأى العين لكن أحدًا لن يصغى لها.. سوف يتهمونها بأنها طابور خامس وخلية نائمة و.. و..
حتى ذلك الحين سيكتب الشباب عن لحظات الاحتضار والحوادث والدماء وينغلقون أكثر فأكثر