فى إحدى قصص لاكى لوك المصورة الهزلية، كان هناك لص يهاجم المصرف فى ساعة بعينها كل يوم.. يقتحم اللص المصرف؛ فيكون الصراف قد أعد له حقيبة المال، والعملاء قد أخرجوا ما فى جيوبهم وقد بدا عليهم الملل بسبب هذا التأخير. لسان حالهم يقول: «انته سريعًا.. ليس لدينا اليوم بأكمله». فى اليوم الذى يتأخر فيه السطو يجن جنون مدير المصرف بسبب تعطيل المصالح هذا. طبعًا فكرة ظريفة مجنونة من إبداعات الفنانين البلجيكيين موريس وجوسينى.
كلنا يعرف أن أغرب الأشياء تحدث فى مصر وأن خيال المبدعين لا يمكن أن يصل لواقعنا. حقيقة فطن لها عمنا المتنبى منذ قرون، وفيما بعد كتب بلال فضل عن الواقع المصرى الذى يتحدى خيال أى أديب، لدرجة أن فيلم (ثعابين على طائرة) الذى اعتقد مؤلفوه الهوليووديون أنهم (جابوا التايهة) كنا نحن قد جربناه منذ زمن سحيق، عندما تم ضبط محاولة تهريب ثعابين على طائرة لمصر للطيران وفرت من محبسها!
الخبر الذى جاء فى جريدة الأهرام بتاريخ الخميس 20 مارس 2014 يقول «للمرة الـ19 على التوالى اقتحام مكتب بريد وادى حوف وسرقة أمواله على يد نفس المتهمين». لاحظ أننا لا نتكلم عن نكتة بلدينا الذى تلقى 16 صفعة على قفاه فجأة بل هو خبر حقيقى. تقرأ تفاصيل الخبر فى دهشة: «للمرة الـ19 على التوالى اقتحم مجهولون مكتب بريد بعد تهديد مدير المكتب والموظفين بالسلاح ولاذوا بالفرار وتبين أن المتهمين أنفسهم هم الذين سرقوا أموال المكتب بنفس الطريقة ونفس السيارة 18 مرة سابقة دون أن يتم القبض عليهم............................».
المفاجأة كذلك: «الجناة يستخدمون السيارة نفسها والأسلحة نفسها.. وأكد موظفو المكتب أنهم نفس المتهمين الذين سرقوا أموال المكتب فى المرات السابقة وهذا يتضح من أصواتهم والملابس التى دأبوا على ارتدائها».
هل اكتفيت من الذهول؟.. لسه وحياتك.. ما زالت المفاجأة الأكبر قادمة: «وكشفت التحقيقات عن مفاجأة مذهلة؛ وهى أن المتهمين توجهوا فى الشهر الماضى لسرقة أموال مكتب البريد صباحًا إلا أنهم لم يعثروا سوى على مبلغ 180 جنيها مما دفعهم إلى التوجه اليه فى صباح اليوم التالى وسرقوا من الخزينة 75 ألف جنيه ولاذوا بالفرار، وبعدها ارتكبوا جريمتهم عشرة مرات متتالية حتى بلغت مرات السطو على المكتب 19 مرة»
هل تتخيل المشهد؟.. اللصوص يقتحمون المكتب فلا يجدون سوى 180 جنيهًا فينصرفون فى ضيق. ويعودون فى اليوم التالى بانتظار أن يفرجها ربنا.. وبالفعل يجدون ثمرة صبرهم 75 ألفًَا، ثم هم ما زالوا هاربين. هل يوجد تعليق على هذا الخبر؟... الخبر الذى جعل مؤلف لاكى لوك يبدو عتيقًا ضيق الأفق والخيال.
هنا يأتى السؤال المهم: هل يوجد أمن وشرطة فعلاً فى هذا البلد؟ ولمن تذهب الضرائب وهذه الميزانية العملاقة؟.. تخيل كل هذا الاطمئنان وكل هذه السكينة التى يتعامل بها المجرمون. إنك قد تتعرض لمتاعب أكثر لو دخلت لتشترى تمغة أو نموذجًا حكوميًا من مكتب بريد. أى أن اللصوص لم يتعرضوا لخطر سوى احتمال أن يصاب أحدهم بالزكام من تقلب الجو، أو تلتوى قدمه وهو يدخل مكتب البريد.. هذا هو الخطر الوحيد.
الآن ننتقل لمشهد آخر هو خطاب وصلنى من عضو هيئة تدريس بطب سوهاج وعضو باتحاد الكتاب. لن أذكر اسمه إلا إذا طلب هو مني ذلك بوضوح، أو اهتمت جهة رسمية بالأمر، وذلك تلافيًا لمزيد من تحرش البلطجية به. يقول فى خطابه الذى أختصره هنا: «بعد الثورة وتراخي يد الدولة وهيبتها بدأت تظهر على الساحة طبقات جديدة كاشفة عن وجهها القبيح بقوة وشكل متحدّ، منها طبقة البلطجية، حين يقف بلطجى على رأس مجموعة من أصحاب الدرجات العلمية الرفيعة يفرض عليهم إتاوات ليكف عنهم شروره ويتعرض لمن يرفض منهم بالأذى، فيتلف ممتلكاتهم سرقة أو حرقا أو تحطيما، وحين يقتحم على بعضهم مقر عمله بالسيوف،..... ففى أى دولة نعيش وفى أى عصر؟!».
الحكاية هى أن بلطجيًا استقر فى البرج الذى يعمل فيه الطبيب.. هذا البلطجى يمارس الحماية الجبرية التى يمارسها رجال المافيا فى صقلية. بعض الأطباء قبل أن يدفع الإتاوات تجنبا للمشاكل. يقول الطبيب: «وبعد أن افتتحت أنا العيادة زارنى الشخص المذكور مرات فى البداية للتودد وأنا لا أعرف عنه شىء وطلب مبالغ مالية بسيطة فى البداية بحجج مثل إضاءة البرج ونظافة البرج وأمور عامة شكليا، حتى بدأت أرتاب وبدأ هو يعلن بشكل أكثر صراحة أو أكثر بجاحة إنه عايز فلوس وكما قال نصا "افتح الخزنة وطلعلى فلوس"
«بدأ مسلسل تمزيق اللافتات وإتلاف أشياء العيادة مع طرد المرضى.. والتهديد بتدمير العيادة أو تهشيم السيارة أو حتى الخطف والإيذاء البدنى كما فعل سابقا مع أحد الموظفين بصيدلية البرج حين رفضوا دفع الإتاوة له.. وحين قلت له: "مش ممكن دا يحصل لأن البلد فيها قانون" قال لى نصًا: "احنا القانون.. احنا رجالة النظام اللى فات والنظام ده والنظام اللى جاي"»... حرر الطبيب محضرًا ضد البلطجى فى قسم الشرطة، وعاد ليجد أن الرجل انتزع لافتة العيادة ووضعها على مدخل البناية على سبيل العبرة لمن تسول له نفسه عدم الدفع.
يقول الطبيب: «يا سيادة رئيس الدولة يا رجل القانون.. نريد أن نعيش فى حمى القانون وظلاله.. يا معالى رئيس الوزراء يا من تنادى بأن اللحظة لحظة الإخلاص والعمل الجادّ لاستدراك ما فات.. كيف نعمل وسيوف البلطجية تهدد أرواحنا؟.. السادة حماة أمن الوطن فى جيش مصر وشرطتها.. نقدر الدور الذى لعبتموه ومازلتم لحمايتنا من الإرهاب ولكن.....أليست البلطجة نوعا من الارهاب؟؟؟؟».
ننتقل لمشهد ثالث هو قارئة مرت بتجربة غريبة منذ أربعة أو خمسة أشهر: « فى المترو واحد بجلابية عليها جاكت زق البنات على الرصيف، وقالى تعالى معايا هقولك حاجة. وطبعا زعقت وقلتله انا اعرفك قالى بصى كل الناس اللى حواليكى دول وعملالهم قيمة ملهومش اى قيمة عندى.. تعالى معايا بالراحة كده وانتهى الموضوع ان ست أنقذتنى أول ما جه المترو رمتنى جوه ودخلت ورايا.. فيلم كارتون صح؟ أقسم بالله حصل، وأنا كل اللى فى دماغى أثناء تعليقات الناس اللى امتدت 5 محطات هو: الداخلية فين؟ الموقف ده حصل فى رمسيس ومحطة رمسيس مليانة قوات حماية مدنية».
القصص عندى كثيرة جدًا والمشكلة هى أين تبدأ؟. كل شىء يقول إن هناك بالفعل خللاً واضحًا مخيفًا فى وزارة الداخلية، فهى-ببساطة- لا تحمى المواطن، ويعرف هذا كل من سرقت سيارته وذهب ليشكو فى القسم، فاكتشف أن القسم واسطة خير بينه وبين المختطفين الذين يريدون فدية لا أكثر. فى البدء كانت الداخلية ترفض العمل لأنها (مقموصة) بعد 28 يناير.. لكن من الواضح أنها استعادت قوتها وصلفها، وسمعنا لأول مرة من يهتف (الشعب والشرطة إيد واحدة) فأين أمن الشعب إذن؟.. الغريب أن الداخلية صارت أكثر عنفًا وفظاظة من أيام مبارك، وفى الوقت نفسه صارت أقل كفاءة. والمشكلة الأسوأ هى أنها عجزت فعلاً عن حماية كوادرها الذين يفتك بهم الإرهاب كل يوم.. لقد صار هذا واضحًا جليًا ويدمي أى شخص يكره الدماء والعنف مثلى. إلى أن نعرف الإجابة أرجو ألا يسرق مكتب بريد وادى حوف للمرة العشرين بنفس السلام والسيارة والأشخاص