بعض حلقات (الكاميرا الخفية) التى قدمها الفنان إبراهيم نصر كانت رائعة، وتستدعى وقفة تأمل. إبراهيم نصر فنان بارع يملك مثل وزنه موهبة، ويشبه الجوكر من حيث أنه يصلح فى أى دور ويقنعك فى كل مرة. فى تلك الحلقة كان يلعب دور جزار فظ ضخم الجثة كث الشارب، يقف كالأسد أمام (قرمة) اللحم وفى يده الساطور. امرأة ضعيفة رقيقة الحال وابنتها جاءت لتشترى كيلو جرامًا من اللحم، ومن الواضح من تعاملها مع النقود بيد ترتجف أنها ثمينة جدًا ولم تجمعها بسهولة. كما تقضي حيلة الحلقة وزن لها إبراهيم نصر بلا اكتراث بعض الدهن والشغت ثم لفه فى كيس بلاستيكى وضعه أمامها وواصل عمله. ظلت المرأة حيرى تحدق فى اللحم غير الصالح للأكل.. لا تعرف ما تقول. بنتها قالت لها إن هذا ليس لحمًا بل هو فضلات، فقالت همسًا وهى ترمق ضخامته: «مش قادرة أتكلم. أصل شكله يخوف !».
هنا يظهر أحد الممثلين المساندين لإبراهيم نصر – كالعادة – فى صورة رجل لحوح حشري. يطلب كيلوجرامًا فينال الشغت بنفس الطريقة. يستدير ليسخن المرأة: «كيف نقبل هذا اللحم الرديء؟.. نحن دفعنا مالاً ولابد من مقابل». تردد المرأة فى خوف: «أصل شكله يخوف».
يكرر الرجل الإلحاح ويطالبها باتخاذ رد فعل.. تقول له: «ما تتكلم انت؟». فيرد بأنه سيفعل لو ساندته. يزداد الضغط العصبى على المرأة.. وفى لحظة انفلات أعصاب مفاجئة تحمل اللحم وتلقيه فى وجه الرجل اللحوح وهى تصرخ فى توحش!!!
هذا موقف جدير بالدراسة فعلاً. السيدة قد صبت غضبها على الرجل وليس الجزار. لماذا؟.. لأن الرجل ضغط على أعصابها وفضحها أمام نفسها، وأظهر لها حقيقة الخنوع والذل الذى تواجهه.
أتذكر هذا الموقف كلما ركبت سيارة أجرة أو وقفت وسط زحام حيث يتبادل القوم آراءهم السياسية. كففت عن الجدل والغضب منذ زمن، لكنى بالفعل أسمع دائمًا نغمة مهاجمة الشباب الذين قاموا بالثورة ورموزها. هذه الخطة التى بدأتها آلة ضخ الأكاذيب المسماة (الإعلام) قد أتت بثمارها فعلاً، وصار من النادر ألا تسمع أقذع السباب ضد صناع ثورة يناير.
الحقيقة هنا هى أن الناس تتصرف بالفعل مثل تلك السيدة التى تبتاع الشغت من الجزار. هناك من هزها وأشعرها بعدم الراحة وبأنها تستحق ما هو أفضل. بينما السيدة مستعدة لأن تصمت وأن تعود لبيتها بهذا الشغت (لأن الجزار شكله يخوف).. انصب غضبها على من حاول أن يغير المسلمات وأن يخرجها من المستنقع الجميل الدافئ الذى كانت مغمورة فيه.
لا ينكر المرء أن الناس تعبت من الثورة فعلاً، وهى لا تذكر كيف كانت الحياة أيام مبارك، لكنها متأكدة من أنها كانت أفضل أمنًا وأكثر رخاء. والحقيقة هى أن ما شهدناه من أهوال لم يكن سببه الثورة ولكنها محاولات من يصرون على هزيمة الثورة، وعلى الاحتفاظ بما كان لهم من دون حق أيام مبارك. ومن الواضح تمامًا فى هذه المرحلة –على الأقل– أنهم انتصروا، وأنهم ينتقمون بوحشية من كل من هدد مكاسبهم أو نفوذهم يومًا.
كانت هناك كذلك درجة كبيرة من الانفلات والتعجل ونفاد الصبر لدى الناس، بحيث صارت المظاهرات فى كل مكان.. وقد كتبت كثيرًا أيام المجلس العسكرى والإخوان أنتقد قطع الطرقات أو محاصرة مجمع التحرير أو.. أو... وكما قلنا: لقد أخرجت الثورة أفضل ما فينا وأسوأ ما فينا، وأزاحت غطاء البكابورت الذى كان يخفى كوارث. لكنك تعرف كما أعرف أن هناك أشياء عرفناها مع الثورة ولن تعود أبدًا. منها تلك الدرجة غير المسبوقة من حرية الإعلام وحرية التعبير عن الرأى وحرية الغضب.
فى النهاية تظل حقيقة أن كل مشكلة نحن فيها تم بذر بذرتها أيام مبارك.. من الذى أضاع كل هذه الأعوام من دون تدبير طاقة بديلة؟.. من الذى لم يواجه مشاكل الصحة والتعليم والبطالة والإسكان؟
وجد الناس أن شيئًا لم يتغير فصبوا جام غضبهم على الرجل الذى طلب منهم مواجهة الجزار. وحفظوا الشعارات والأكاذيب التى أطلقتها آلة ضخ الأكاذيب المسماة (الإعلام) عن ظهر قلب. صرت أشعر بغثيان كلما سمعت (خط أحمر) و(إلى مزبلة التاريخ) و(طابور خامس).. هذه تعبيرات قريبة جدًا من (أجندة خارجية) التى قتلوها استخدامًا أيام الثورة..
هناك جريمة جديدة اخترعتها الديمقراطية المصرية، هى جريمة (الترشح للرئاسة). فى عصر مبارك تم تمزيق أيمن نور ونعمان جمعة لأنهم ترشحوا أمام مبارك. اليوم يتلقى حمدين صباحى شتائم شريحة لا بأس بها من الشارع لأنه ترشح أمام السيسى، مع أن الترشح لا يعنى الفوز. واضح أننا لم نخرج بعد من مصيدة المبايعة، وكما نعلم فإن مصر تمتاز بالعبقرية فى هذه الأمور..
هؤلاء الشباب واجهوا الجزار فعلاً وقالوا له إن لحمه ردىء.. النتيجة هى أن الناس انهالوا سبًا وركلاً وضربًا فى هؤلاء الشباب واتهموهم بالرعونة والعمالة، بينما قالوا للجزار (آسفين).. لكن سوف يتعلم الناس الدرس بالطريقة الصعبة وبعد فوات الأوان، ويتعلمون أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن الشباب الذين قاموا بالثورة كانوا أفضل وأنبل ما فينا، ولن يذهبوا لمزبلة التاريخ أبدًا