ثمة كتاب جميل للأستاذ محمود قاسم؛ جرعةِ الأدرينالين الثقافية التي تصنِّف كلَّ شيء بنشاط لا يخبو لحظة. هذا الكتاب يتحدث عن السَّرِقَات الفكرية في السينما المصرية، ويقول إنه تلقَّى الكثير من التهديدات بسببه؛ لأن هناك كثيرين يهمهم بالطبع ألَّا يُفتضح أمرُهم. عندما تطالع الكتاب فلسوف تندهش من أفكار اعتدتَ أن تعتبرها مصرية جدًّا لكنك تكتشف أن لها جذورًا غربية واضحة، وقليل من الناس من يصدِّق أن فيلم «غزل البنات» مثلًا مأخوذ عن رواية غربية، والأمثلة كثيرة على كل حال. لكن تكرار الأفكار شائع في السينما العالمية كلها
فن السينما يحتاج إلى مالٍ وافر، والفيلم في هوليوود يكلف تقريبًا ثمن طائرة؛ لهذا يصير التكرار واجبًا وحتميًّا … وإلا لكان علينا أن نتخيل مصنع طائرات لا تخرج منه أبدًا طائرة تشبه السابقة لها. هذا مستحيل، وهذه القاعدة تتضخم مع السينما المصرية لأنها صناعة فقيرة طبعًا.
هناك قصص محظوظة جدًّا دخلت عالم السينما ولم تخرج قط: الكونت دي مونت كريستو تحفة «ألكساندر دوما» مثال مُهِمٌّ … يمكنك أن تراها في كل فيلم تقريبًا: «أمير الانتقام»، «أمير الدهاء»، «دائرة الانتقام»، «المرأة الحديدية» … وبالطبع كل الأفلام الهندية، وعشرات من أفلام الكونج فو الصينية الرديئة، وعشرات من أفلام الأكشن الأمريكية أحدثها «اقتلوا بيل» لتارانتينو. قصة الرجل الذي يدمرون مستقبله ويسلبونه حبيبته، ثم يمر بمرحلة التغيير … يصير أكثر ثراءً وأكثر خبرة، ويُذْكِي جذوة الانتقام في رُوحه يومًا بعد يوم، ثم يعود ليفتك بمعذبيه الواحد تلو الآخر. بالطبع قد لا يكون رجلًا بل فتاة. لا شك أن لذة الانتقام ذات مذاق شَهِيٍّ بالنسبة إلى المشاهد؛ مما يجعل تلك التيمة لا تفشل أبدًا. هناك تيمة أكثر رقيًّا وتعقيدًا رأيناها في مسرحية دورنمات «زيارة السيدة العجوز» … هي تقريبًا عزف على نفس النغمات.
أما عن قصة «أسرة فون تراب» اليهودية التي أجاد أطفالها الغناء وتعرضت لاضطهاد النازيين؛ فهي التي تم تحويلها إلى فيلم «صوت الموسيقا»، وبعد هذا تحطم السَّدُّ وانطلقت القصة تكرر نفسها في آلاف القصص والأعمال … تُرى كم مرة رأيت أبًا قاسيًا يحاول تربية أولاده، ثم تأتي مربية جميلة رقيقة تُعلِّم الأولاد الحياة والفن، ويكون صِدامها مع الأب حتميًّا ثم يأتي الحب؟ طبعًا لا بد من حذف الجزء اليهودي في القصة. تذكر «موسيكا في الحي الشرقي» و«حب أحلى من الحب» ونحو دستة من الاستطرادات …
القصة المحظوظة الأخرى التي لا أعرف متى بدأت بالضبط، هي تبادل الشخصيات بين الثري أو الحاكم أو زعيم العصابة، وصعلوك أَبْلَه لا يميزه سوى التشابُه. أراهن أن هذه التيمة قُدِّمَتْ ألف مرة … الصعلوك الأبله مرتبك يقع في أخطاء قاتلة، ثم ينجح بالمصادفة، ويحبه الجميع. ماذا عن «سلامة في خير»؟ الريحاني يتم استخدامه كشبيه فاشل للمهراجا هنا. وبالطبع لا بد من تذكر معظم أفلام ومسرحيات فؤاد المهندس «مستر إكس»، «السفير»، «طبوزاده»، «فيفا زلالطا». فيلم «لا تراجع ولا استسلام» الذي قدمه أحمد مكي يقوم على هذه الفكرة ويسخر منها في الوقت ذاته بطريقة خبيثة؛ أي إنه يرتكب الخطأ وينتقد نفسه لأنه يرتكب الخطأ! أفلام اللمبي كذلك استخدمت هذه الطريقة مرارًا، ويبدو أنها مَخرج ممتاز جاهز لمن لا يجد فكرة لفيلم كوميدي. الأمثلة تفوق الحصر فعلًا، وأذكر هنا مثلًا فيلم «الدكتاتور» لشارلي شابلن، و«كاجيموشا» للياباني العظيم أكيرا كوروساوا …
من أين جاءت هذه الحبكة المحظوظة؟ أبعد مثال يمكنني التفكير فيه هو قصة «سجين زندا» لأنطون هوب. معظم من درسوا الإنجليزية يعرفونها جيدًا.
سيرك الغرائب الذي يأتي للمدينة، والذي يحمل لمحة من السحر الحقيقي، تيمة تتكرر في الأفلام الغربية لكن ليس هذا جوًّا يناسب مصر بالطبع. من أمثلة هذه التيمة أفلام مثل «سيرك مصاصي الدماء» و«شيء ما شرير من هذا الطريق يأتي» و«سيرك الغرباء»… إلخ.
في كل بلد في العالم تقريبًا عولجت قصة زولا الكئيبة «تريزا راكان»، وعندنا في مصر «لك يوم يا ظالم» و«المجرم» ومسلسلات كثيرة … الفتاة تتزوج الابن الأبله … تتفق مع عشيقها على قتله، ثم تكون المشكلة هي قتل حماتها المشلولة التي صارت شاهدًا خَطِرًا …
حبكة سندريلا كذلك صالحة دومًا … الفتاة الفقيرة الجميلة التي يحبها الأمير وينتشلها من البيت القاسي الذي تعيش فيه. كل الأفلام العربية تدور في فلك هذه القصة تقريبًا.
في كل العالم عولجت قصة هاملت، وحتى فيلم «الملك الأسد» هو معالجة القصة بالأُسود على طريقة ديزني. لكني لا أذكر مثالًا لها في السينما المصرية.
يقول كُتَّاب السيناريو في هوليوود إنه لا توجد سوى ٣٦ قصة في العالم، ولا يمكن أن تأتي بقصة أخرى. لست متأكدًا من صحة هذه المقولة، فبالتأكيد هناك قطع شطرنج إضافية لم تكن موجودة في الماضي … أفلام كرستوفر نولان مثلًا دليل كافٍ على عدم دقة هذه الفرضية. هؤلاء العباقرة قادرون على تفجير قنوات جديدة في الصخر تتدفق عبرها الأفكار.
أذكر أنني كنت — وما زلت — عاجزًا دومًا عن التهام الكابوريا … أشعر أنها أكذوبة باهظة الثمن عسيرة الأكل ولا أخرج منها بجرام لحم تقريبًا. ثم أَشفق عليَّ أحد خبراء الْتهام المأكولات البحرية، فأمسك بمحتوى طبقي وقام بتفسيخه بطريقة معينة، فوجدت أن هناك كميةً هائلة من اللحم لم تُمسَّ بعدُ ولم أعرف أنها موجودة. هذا ينطبق على أفلام نولان، وينطبق على بيكاسو مثلًا. بيكاسو فتح مسارات جديدة لا حصر لها للرسامين من بعده … كأن الناس قد اعتبروا أن الرسم جرَّب كل شيء، وانتهى بموت آخر فنان تأثيري أو وحشي … فجأة اكتشفوا ممرات متفرعة وسَخِيَّة جدًّا فتحها هذا العبقري؛ أي إن بيكاسو أطال عمر الرسم عدة قرون أخرى …
في تجاربي مع السينما، تعلمت أنني لو قدمت فكرة أصيلة غريبة فلسوف يمط المخرج/المنتج شفته في ألاطة، ويقول: «لا أجد نفسي في هذه القصة … أنت تفهمني؟ ثم إنها غريبة … غريبة جدًّا!» ثم يشرح لي وهو يبتسم بحنكة وتعب أنني قد أكون أديبًا معقولًا، لكني بلا خبرة سينمائية ولا أفهم آليات السوق. أما إذا قدمت فكرة أجنبية عبقرية واقترحت تحويلها لنص عربي، يقول المخرج/المنتج: «الفكرة لا تناسب مجتمعنا.» أو «لو ذكرنا أنها مأخوذة عن قصة كذا فلسوف يخربون بيوتنا بحقوق الملكية الفكرية … ولو لم نذكر ذلك فلسوف يتهمنا الناس بالسرقة.» هذه أسعد لحظات حياتهم بالفعل. وفي النهاية أنسى الموضوع، لأجد أن الفكرة التي اقترحت تحويلها ستعرض في كل دور السينما في عيد الفطر القادم، دون ذكر اسم القصة الغربية الأصلية طبعًا!
هكذا يجب أن ننتظر حتى نجد من يجيد فن تفسيخ الكابوريا لنا