لم أكن قط من المولعين بالفيس بوك، ولا أذكر أنني استعملته أكثر من ست مرات في حياتي. ذات مرة فتح لي ابني حسابا فيه، ثم وجدت أنني لا أستعمله بتاتا فطلبت منه أن يغلقه. الحياة أقصر من أن نضيعها في العلاقات الاجتماعية!. خصوصًا أنني كلما دخلت إلى هذا الشيء وجدت ذئابا هائجة سعرانة تشتم بعضها بالأب والأم. هل لهذا جدوى معينة في تحسين العلاقات الاجتماعية بين البشر؟ بصراحة لا أعتقد.
مؤخرا طلب مني ابني أن أشاهد مجموعة من الكليبات على الفيس بوك ويوتيوب، كلها لممثل واحد. شاب في أوائل العقد الثالث من العمر يجلس غالبا في غرفته، ويسلط الكاميرا على ملامح وجهه. لا توجد موسيقى ولا مؤثرات وكل شيء بسيط جدا. لكن هذا الفتى يستخدم صوته وملامح وجهه ببراعة غير عادية، ويقلد أنماطا في المجتمع لابد أنك تعرفها أو قابلتها من قبل. في كليب من الكليبات يرينا مشهدا دراميا لا نعرف بدايته، لكننا نرى رجلا فخم الألفاظ واثقا من نفسه، يتشاجر في بيت صديقه بعد إهانة لا نعرفها، ويكرر بلا توقف: "انت عمال تصغر. انت مصر تتحول لهوا. بتتلاشى قدامي يا أخي. هوا. أنا بردت منك يا أخي" ثم ينهي المحادثة في غضب طالبا من زوجته إيناس أن تنهض، ومن ابنه خلدون - تأمل الاسم - أن يلبس الحذاء لأنهم راحلون. يخيل لي أنني عشت هذا الموقف ألف مرة وقابلت نفس الرجل مئة مرة.
في كليب آخر يتحول إلى شاب شهواني مدمن مخدرات يتلمظ على ساقي فتاة تلبس الميني جوب، ويصفها أنها كندوز أو بلح يذوب في الفم. ويؤكد أن الفتاة تلعب (ساونا) على فكرة ولا تمزح. في كليب ثالث يقلد نمطا نعرفه في الحياة جيدا.. رجل مهم يبدو أنه مسئول أمني أو شيء من هذا القبيل، وقد اعتاد الضحكات المفتعلة والعبارات المجاملة المتظاهرة بالرقة. ضحكاته آلية عصبية تذكرك بالعواء، وهو يكلم قريبا شابا له: "حبيبي يا شيري. العيد جاي. اوعى تنسى اللحمة بقى. يا حبيبي. سلم على بابا" وهكذا تتوالى الكليبات المذهلة. وأطولها لا يتجاوز ثلاث دقائق. وأرجو ألا تكون قد رأيتها بعد لأن متعة خارقة تنتظرك، أما عني فقد كاد تنفسي يتوقف من الضحك مرارا. لكن المحتوى الفني العالي لهذه الكليبات البسيطة لا يغيب عن المشاهد. هذا ليس تهريجا على الإطلاق. هذا الفتى يلاحظ الناس ببراعة غير عادية، وهو كذلك قادر على تقليدهم بحرفية مذهلة. لست خبيرا في فن المسرح والتمثيل، لكني أعتقد أن هناك جذورا قوية لهذا الفن في مسرح العبقري الروسي ستانسلافسكي، كما أنه يرتبط بفن منقرض هو الفودفيل. لا شك أن هذا الفتى يمارس نوعا خاصا من الأدب غير المكتوب. هذا هو ما يقوم به الأدب بالذات. وقد كانوا يقولون إن أدب تشيكوف يتلخص في جملة واحدة: أنتم تعيشون حياة سخيفة أيها السادة. لا عجب أن تشيكوف من المنابع الأساسية لمسرح ستانسلافسكي. كيف يمكن الاستفادة من فن إسلام حسام؟
بصراحة لا أعرف. هل الجواب أن يكتشفه أحد المخرجين ويقدمه؟ المعلومة التي لدي هي أنه هو نفسه مخرج إعلانات هل يمكن أن يعطى مساحات درامية أكبر من هذا؟ أذكر منذ سنوات طويلة أننا رأينا فتاة تقلد الفنانين، وتذهب لملاجئ العجزة تطوعا لتسلي السيدات المسنات هناك. كن يمتن ضحكا من أدائها، فلما قرر مخرج تليفزيوني أن يقدمها في مسلسل فشلت فشلا ذريعا. لقد كان ما تقوم به في دور المسنين هو الوعاء الوحيد المناسب لموهبتها.
نعرف كذلك برنامج ساعة لقلبك الذي كان يقدم في الراديو قديما، وجعل الناس يعشقون أسماء مثل أبي لمعة والدكتور شديد والفتوة. إلخ. جرب مخرجون كثيرون أن يضعوا هؤلاء في أفلامهم وكانت النتيجة أنهم صاروا في منتهى السخف. قال عمنا محمود السعدني في كتابه الجامع (المضحكون) إن هؤلاء ساندويتشات فكاهة ولا يمكن أن يكونوا هم الوجبة نفسها. الوجبة نفسها هي الريحاني وفؤاد المهندس ومدبولي وإسماعيل يس.
إن إسلام حسام موهبة عظيمة خسارة أن تضيع أو تبدد في كليبات يراها رواد فيس بوك وينسونها بعد ثلاث دقائق. لابد من مخرج حساس ذكي يعرف كيف يستفيد من هذه الموهبة بدلا من أن يسخفها. وحتى ذلك الحين أكرر أن هذا الفتى فنان حقيقي استطاع أن يخلق عالما ساحرا كاملا بلا أدنى إمكانيات