عندما عدت لطنطا فى ذلك المساء الأسود، سألونى فى قلق عما إذا كانت الأمور هادئة فى القاهرة (بعد ما حدث الليلة)..بعد ما حدث الليلة؟.. هل هناك ما حدث الليلة؟. لا أتابع كرة القدم ولا أعرف شيئا عنها، لهذا لم أعرف بتلك الكارثة التى حدثت فى الاستاد وأنا فى القاهرة، والأغرب هو أننى وجدت أن كثيرين لم يعرفوا بما حدث إلا متأخرا، لأن المباراة أقيمت بشكل طبيعى تماما غير عابئ بدماء نحو ثلاثين شابا سالت على باب الاستاد، فيما يعتبر تكرارا مصغرا لمذبحة بورسعيد. عرفت أن هذه المباراة أول مباراة يسمح فيها بدخول جمهور بعد توقف دام موسم 2013-2014، هذا معناه أنها بداية لعينة جدا. كما قلت من قبل، صارت الحوادث كثيرة جدا، حتى أننى أعتقد أنهم ينتجون أجهزة التلفزيون بشريط حداد أسود لخفض النفقات. صديقى البريطانى الذى يرسل يعزينى كلما حدث شيء كهذا، شعر بالملل فلم يرسل لى شيئا.
لقد كتب الجميع عن الحادث، وكل ما يمكن أن يُقال قد قيل، لذا أكتفى ببعض الملاحظات:
- لا شك أن هذا الحادث يمثل فشلا ذريعا للشرطة التى قررت أن تنظم الدخول عن طريق محاصرة زحام هائل من المشجعين فى مساحة ضيقة أصلا، باستخدام الغاز المسيل للدموع والهراوات. والنتيجة لا تحتاج إلى خرطوش أو رصاص حى.. التدافع البشرى يتحول لأداة قتل رهيبة تسحق كل شىء.
- لا ننفى تماما وجود عنصر من الغل المسبق يندرج تحت ما يمكن تسميته بـ (شهوة التنكيل بالأولتراس) عقابا لهم، وهذا ينطبق على أولتراس أهلاوى ووايت نايتس. الفكرة أنهم قادرون على حشد أعداد هائلة من الشباب المنظم الذى يتحرك ككتلة واحدة فى أى لحظة، ولا شك أن دورهم فى ثورة يناير كان بالغ الأهمية.
- لا ننفى كذلك بعض المسؤولية فى المتزاحمين أنفسهم، وهو سلوك يتكرر كثيرا فى مصر. أذكر أننى كنت مسافرا للمملكة العربية السعودية منذ عشرين عاما، وكنت أقوم بتوثيق بعض الشهادات. عندما جاء دور تسلم الشهادات الموثقة وراح موظف بالسفارة ينادى الأسماء، حدثت حالة ذعر لا مبرر لها وراح الناس يتدافعون ويضربون بعضهم، برغم أن ورقك لن يضيع ولن يستفيد منه أحد سواك، وهكذا وجدت نفسى على الأرض أوشك على أن أُداس بالأقدام.. أزحف مبتعدا، محاولا فهم لماذا سأموت لو مُتّ. كنت أريد مبررا واضحا لأموت وأنا راض. التدافع جزء مهم من الشخصية المصرية التى تكرر نفس السيناريو سواء تعلق الأمر بتقديم أوراق أو دخول مصرف أو افتتاح بوفيه أو قطع تذاكر سينما، ويبدو أنه يعود لدهور من الحرمان حيث تكون الفرصة التى تقابلها هى الأخيرة غالبا. فى مايو 2014 هلك ضحايا أبرياء فى حادث تدافع مروع أمام بوابات معهد ضباط الصف بالتل الكبير. فى مصر فقط يمكن أن يذهب الأب للتقديم لابنه فيعود ميتا، أو تذهب لتشجيع فريقك الكروى فلا تعود.
- هناك فريق يرى أن الحادث مدبر للتغطية على التسريبات الأخيرة، وهو منطق غريب.. أن تدبر كارثة لتغطى على مشكلة.. أليس هذا الحادث أخطر على الحكومة من أى تسريبات؟. على الجانب الآخر يرى فريق أن الحادث مدبر للتشويش على زيارة بوتين للقاهرة، وهو فريق ينتمى لمدرسة أن كل شيء يحدث دبره الإخوان (قلت منذ عامين إنه سيتم اتهامهم بمذبحة بورسعيد). أعتقد أن التفسير أبسط من هذا: غريزة التدافع لدى المصريين، مع قلة كفاءة الشرطة وولعها بالضرب أولا وقبل كل شيء. أضف لهذا أهم عنصر وهو عنصر سوء التخطيط فى تخصيص باب صغير ضيق لكل هذه الأعداد، وقد قيل كلام كثير عن ذلك القفص الحديدى.. إلى حد ما نتذكر سيناريو هولوكوست عربة الترحيلات. وهو نفس ما قيل عن معرض الكتاب. التأمين لا يعنى أن تحاول حشر الفيل فى خرطوم. نحن لا نحتاج لرصاص كى نموت، فنحن نفعل بنفسنا كل شيء، ونخوض حربا ضد أنفسنا طيلة الوقت. الشرطة جاءت من الناس وكلاهما ليس على ما يرام.
- وبرغم أن هناك نجم كرة ألغى خطبته حدادا، ونجم كرة رفض المشاركة فى المباراة بعد المذبحة، فقد كانت السمة العامة للإعلام هى اللامبالاة أو صيغة (لقد استحقوا ما حدث لهم). وسرعان ما ظهر الإعلاميون إياهم يرحبون بما حدث ويباركونه غير عابئين بصدمة الشارع.
- فى النهاية لن تتجه أصابع اللوم أو الاتهام إلى الداخلية أبدا كالعادة. هذا السيناريو تكرر عشرات المرات حتى صار مملا.
- ما هو الضمان حتى لا يقع الحادث القادم؟. هذا شيء محير فعلا. هل نحتاج لشعب جديد يشكل شرطة جديدة لها وزير جديد؟. أعتقد أن الموت تحت الأقدام أسهل بكثير.
- نقطة أخيرة تتعلق بقناة الجزيرة، وشعرت بها بالذات بعد مجزرة الاستاد هذه، وهى حالة البشر والنشوة التى قابلت بها القناة هذه الكارثة. أعترف أننى كنت أحب هذه القناة، خاصة فى مناخ إعلام الصوت الواحد الذى نعيش فيه، مع حرصها على وجود ضيفين دائما أحدهما (مع) والآخر (ضد)، بينما كل قنواتنا لا يوجد فيها إلا مذيع (مع) يحاور ضيفا (مع) ويتلقى مداخلات من مواطن (مع)، وقد تلقيت الكثير من الهجوم بسبب حماستى هذه. لكن مؤخرا – أعترف – تعالت بشكل واضح نبرة الشماتة واللذة السادية والتشفي لدى المذيعين خاصة بعد التسريبات وحادث الاستاد هذا، لدرجة أن المذيعين يضغطون على الضيوف ضغطا ليقولوا إن مصر ذاهبة للجحيم، ويتضايقون جدا لو تكلم الضيف بحيادية. هناك فارق واضح بين كشف الحقائق والتشفي.. فارق بين متابعة الأخبار والتهييج، بل إن الأمر بلغ درجة أن القناة هى التى تحرك الأحداث وتصنعها.. فى لحظات بعينها كنت أتذكر الإذاعة الإسرائيلية أيام حرب أكتوبر: مسكين أنت أيها المواطن المصرى.. لقد وضعك السادات فى أتون المحرقة أنت وأولادك، وهو مطمئن على نفسه وأهله . تذكرت نفس الطريقة المسمومة فى الكلام مؤخرا. ويوم تملأ الميلشيات المسلحة مصر وتتناثر جثث الأطفال سيكونون سعداء جدا لأن بلدا آخر لحق بسوريا وليبيا والعراق.. المزيد من المواضيع المثيرة للنشرات القادمة. للأسف لا يوجد شخص محايد موضوعى واحد فى هذا العالم