أذكر عام 1986 أننى كنت طبيب امتياز، وكنت أركب الحافلة فى الصباح مرهقًا، إذ لم أنم الليل بطوله بعد نوبتجية سوداء.. دعك من البلطجى مدمن المخدرات الذى كاد يمزقنا بالمطواة أطباء وممرضات فى الثالثة صباحًا.. وكان فى جيبى خمسة جنيهات هى ما بقى من الراتب، بينما جلس خلفى رجل عالى الصوت يحكى لصديقه فى حماسة: «هؤلاء الأطباء الملاعين الجهلة يحصل كل واحد منهم على ألف جنيه يوميًّا، وفى مسكن الأطباء ينعم بأفضل فراش وأرقى الأكلات، ثم يذهب للقسم ليلاً ليسرق الأدوية ثم يضاجع الممرضات جميعًا.. ويهمل المرضى تمامًا. إنهم حطب جهنم!..».
طبعًا كان كلامه معجونًا بألف (ابن كذا) وألف صوت حلقى مستنكر وألف وصف لعورات الأمهات. بالطبع لم أقل شيئًا وأسندت رأسى للزجاج وغبت فى نوم عميق. هناك درجة من الظلم وخطل الرأى تجعلك عاجزًا عن قول حرف واحد.
ثمة خلاف دائم بين طرفين حول مهنة الطب.. الطرف الأول يرى أن الطب مهنة إنسانية ويجب أن تكون كذلك قبل أى اعتبارات أخرى.. هناك دائمًا قصص عن الطبيب الوغد الذى يتقاضى 250 جنيهًا فى فحص واحد بعيادته، والذى طلب ثلاثين ألفًا لجراحة الحاجة عفاف التى يعرف أنها فاشلة، ويشخط فى المريض فلا يسمح له بتوجيه أى سؤال.. أما هؤلاء الأطباء الأوغاد فى المستشفيات العامة فمتغيبون دومًا، ولعل هذا من حسن حظ المرضى لأنهم لو تواجدوا لقتلوهم بالجهل..
الطرف الثانى مقتنع أن الطب مهنة إنسانية فعلاً، لكن يجب كذلك أن تعتبر الطبيب إنسانًا.. هذا الطرف الثانى يرى الجانب المظلم من القمر، ويعرف مدى العوز والإحباط الذى يعانيه صغار الأطباء.. ويقارن بين حالهم وحال القضاء مثلاً (موضوع بدل العدوى للقضاء الذى هو أضعاف مما يناله الطبيب صار دعابة قديمة).. إذن فالطب مهنة إنسانية لكن الناس يطالبون بأن لا يكون الطبيب إنسانًا ولا تكون له احتياجات من أى نوع. يسرى كالأطياف فوق الأرض ويتغذى بالضياء ويتزوج الأفكار.. لا بأس من هالة قديسين حول رأسه كذلك.
الطرف الأول محق مئة بالمئة بالنسبة لكبار الأساتذة الذين صارت أقدامهم راسخة فى السوق، والطرف الثانى محق مئة بالمئة بالنسبة لصغار الأطباء، الذين لا حل أمامهم سوى السفر أو التقاط رزقهم بأى طريقة ممكنة أو الصبر، لأن شعار الطب فى مصر هو: فلينج كل بنفسه.. ولا داعى لقول إن هؤلاء الأطباء الصغار عندما تواتيهم فرصة النجاح يكون المال هو هدفهم فى الحياة، مع لمسة مرارة من المجتمع لا بأس بها.. لقد ظلمهم المجتمع كثيرًا فلا بأس ببعض الانتقام منه.
هكذا تجد أن كل طبيب يتحول إلى ترس فى الآلة الهادرة.. لا وقت للتوقف.. لا وقت لتغيير أى شىء.
الطبيب جزء من المجتمع بالفعل لكنه يتعرض لظلم فادح، لأنه اجتاز دراسة شاقة طويلة ومكلفة بالتأكيد.. لعب اللعبة بجدية متوقعًا أن كل ما يلزمه كى يرتقى وينجح هو الجهد فقط. فى النهاية يتوقع الحد الأدنى من العائد المادى والمعنوى فلا يجد. عرفت شبابًا فى العشرين عملوا فى شركات اتصال يحصلون على رواتب أعلى من أى أستاذ فى كليتى. لكى يكون الطب مهنة إنسانية يجب أن يكون الطبيب مستقلاً ماديًّا ومستريحًا، وبالتالى يمكنك عقابه بقسوة لو أبدى إهمالاً. تحدثت فى ما سبق عن ويليام هالستيد الذى كان يكوى قمصانه فى فرنسا لأن مكوجية نيويورك لا يروقون له!.. بالطبع لا أطالب الطبيب بأن يكون بهذا الثراء. يتمنى البعض أن لا يسمح بدراسة الطب إلا للأثرياء لكنها فكرة حمقاء طبعًا تقضى على مبدأ التنافس وتكافؤ الفرص.. سوف نكرر قصة ابن البواب فى عمارة يعقوبيان الذى تمنى أن يكون ضابطًا وفشل بسبب مهنة أبيه.
سوف أذكرك هنا بفيلم (سيكو) الرائع -بتشديد الكاف- الذى قدمه المخرج الوثائقى الأمريكى مايكل مور عام 2007، الذى يعلن فى بداية الفيلم أن بلاده تقع فى الموقع السابع والثلاثين فى ترتيب الخدمات الصحية.. أى إنها تقع بعد كوستاريكا وقبل سلوفينيا. شركات التأمين الصحى العملاقة فى أمريكا أشبه بعصابات المافيا، وهذه الشركات لديها محققون مهمتهم أن يفتشوا تاريخك كأنك قاتل.. إذا احتجت لجراحة أو خدمة صحية ما، يبحثون عن خطأ ما فى تاريخك المرضى.. خطأ يتيح لهم رفض الدفع.. هناك قائمة بملايين الأمراض التى لا يشملها التأمين الصحى.. هكذا يحصلون على المليارات ولا ينفقون إلا ملاليم. كل رجال الكونجرس يخطبون مطالبين بأن يبقى العلاج بعيدًا عن رقابة الدولة.. «فنحن نحب أمهاتنا مثل هؤلاء وأكثر». يقول مور ساخرًا: نعم.. لا شك فى أنهم يحبون أمهاتهم، لكنهم لا يحبون أمهاتنا بالقدر ذاته!. هنا يريك المخرج مشهدًا فريدًا: أمريكان يعبرون الحدود إلى كندا لكى يظفروا بالرعاية الصحية!..
يسافر مور إلى بريطانيا ليرى نظام الرعاية الصحية هناك، ويسأل كل من يلقاه عن تكاليف العلاج، فيضحكون فى سخرية لأن كل شىء بالمجان هنا.. الحكومة تتحمل كل شىء، ولا توجد عيادات تقريبًا، وهو نظام محكم بدأ عام 1948. ويقول أحد المرضى: «نحن لسنا فى أمريكا والحمد لله!». بل إن مور يكتشف وجود خزانة فى مستشفى هامر سميث فيعتقد أنها المكان الذى يدفع فيه المرضى تكاليف العلاج.. يتضح له أن هذه الخزانة لا تتقاضى ولكن تدفع.. تدفع للمرضى تكاليف المواصلات لدى عودتهم لديارهم! ويخبره طبيب بريطانى أنه يتقاضى مكافأة إذا خفض عدد كبير من مرضاه ضغط دمهم أو مستوى الكولستيرول لديهم! لهذا يعيش البريطانيون ثلاثة أعوام أكثر من الأمريكان.. هل يعيش الطبيب البريطانى فى زقاق ويركب المواصلات العامة؟.. بالعكس.. لديه شقة فاخرة مريحة وسيارة حديثة. يقول الطبيب لمور: «لو أردت أربع سيارات وقصرًا ومنتجعًا فلسوف تجد أن راتبك غير كاف.. لكن لو أردت حياة هادئة مريحة كهذه فراتبك يوفرها بالتأكيد». هل هذه شيوعية؟... هل وجود خدمات مجانية تقدم للمواطنين بلا تمييز خيانة لمبادئ الرأسمالية؟ لماذا إذن لا تتقاضى الحكومة الأمريكية ثمن إطفاء الحرائق ولا ثمن المكتبات العامة ولا المدارس الابتدائية؟. يسافر مور إلى فرنسا ليكتشف أن الأوضاع أفضل هناك ولدرجة تثير الغيظ..
يجب أن نتذكر (سيكو) جيدًا جدًا كلما تقلص دور الدولة فى العلاج، وكلما مشينا معصوبى الأعين وراء العولمة معتقدين أنها الحل.
الحل هو الاستقلال المادى.. أن ينال الأطباء راتبًا يكفى لحياة كريمة، مع زيادة الرقابة وصرامة العقاب بالنسبة للتحصيل العلمى والأداء فى المستشفيات العامة، مع تقليص العيادات أو زيادة الضرائب على أباطرة الطب. نعم.. أنا أطالب بنوع من تأميم الطب أو على الأقل دراسة التجربة البريطانية بشكل شامل. هذه هى الطريقة الوحيدة لرفع الشعور المتبادل بالغبن عن الطبيب والمريض معًا، وشعور كل منهما أن الآخر وغد ظالم.