هكذا كنت جالسًا في سرادق العزاء أرمق زحام المراهقات والأمهات المسربلات بالسواد يحتشدن على الباب وهن يبكين بحرقة، وكانت مريم ابنتي وأمها في الجانب الآخر من السرادق مع السيدات طبعًا. لقد ماتت (رنيم) الرقيقة الهادئة – ابنة السادسة عشرة – صديقة (مريم). أخفينا الخبر عن مريم بعض الوقت لكنها فتحت (الفيس زفت)، فرأت أول ما رأت صورة صديقة عمرها. انفجرت في البكاء الحار. لم أستطع معرفة كيفية وفاة رنيم، فالأقاويل كثيرة حول انفجار في الزائدة وخطأ في التشخيص من طبيب افترض أن هذه نزلة معوية، ومن قائل إنه تم استئصال الطحال في المنصورة لسبب لا نعرفه.. لم أتبين الحقيقة قط ولم أجرؤ على سؤال أبويها، فقط تذوب الأسئلة وتبقى مرارة الموت والثكل. هكذا كنت جالسًا جوار باب السرادق أصغي لصوت المقرئ الشجي، وأرى في الشارع من بعيد أسراب الفتيات اللاهيات يتنزهن، ويتبادلن الضحكات والمرح، ذاهبات لجلسة هواء طلق في النادي، أو احتساء الميلك شيك في كافتيريا، وبالطبع ستفتح كل واحدة الموبايل ليتبادلن صور القطط الصغيرة و(السيلفي) عبر (واتساب). رنيم كانت ستكون بينهن بالتأكيد.. بل كانت بينهن فعلاً أول من أمس، ولكنه القدر. لن تضاف مقاطع جديدة لصفحتها على فيس بوك وسوف تظل في السادسة عشرة للأبد. لن .. ولن ... كمية خواطر قاسية، مع ذكريات لا حصر لها في المدرسة وحفلات أعياد الميلاد والدروس و.. وجدتني أنفجر في البكاء و(أبربر) كالأطفال. وأعتقد أنني وجدت الباب وأكف أهل الفقيدة لأصافحها بالكثير من العسر. ليرحمها الله ويمنح أبويها الصبر.
عدت للبيت شاعرًا بشعور السكير الذي تلقى علقة في خمّارة قبل أن يلقوا به في الشارع. كل عصب وكل عظمة في جسدي تتوجع، وعقلي مفعم بالغيوم. الحق إن هذا قد كان شهرًا قاسيًا في كل شيء. ليرحم الله رنيم فقد أنقذها من آلام كثيرة نعيشها نحن. على الصعيد السياسي تم تعيين المستشار الزند وزيرًا للعدل، فأدركت أن هذا هو الاحتفال النهائي بمحو آثار ثورة يناير. تذكرت مقالاً قديمًا كتبته أيام مبارك. الغريب أن كل مقالاتي أيام مبارك ما زالت صالحة تمامًا، وهذا يعني أن شيئا لم يتغير سوى مئات القتلى والمعتقلين. اسم المقال هو (بلدهم يا عم). قلت ضمن المقال:
"هل لي رأي في الموضوع ؟.. هل هناك من يبالي بما أعتقده ؟.. ما زالت هناك بنود كاملة سرية في معاهدة (كامب ديفيد) عجز أكبر الصحفيين عن معرفتها .. هكذا هم يتفقون دون أن يأخذوا رأيي .. يوقعون .. يعينون .. يبيعون .. كل هذا من دون أخذ رأيي، فإذا أبديت اعتراضًا قيل لي إن هناك قنوات شرعية مخصصة لذلك .. القنوات الشرعية هي برلمان طُعن في شرعيته مرارًا.. ورئيس برلمان متأهب لوأد أي استجواب جاد حقيقي طالبًا الانتقال إلى جدول الأعمال..
إذن فليتلقوا الإهانات .. لتهاجمهم الصحافة العالمية .. لتوجه لهم أبلة (كوندي) اللوم وتضربهم بالخيرزانة على أطراف أناملهم.. لا يهم .. ليس هذا شأني.. هم ليسوا قومي وليسوا رجالي.
نفس السيناريو حدث بشكل مخفف مع خسارتنا فرصة تنظيم المونديال .. كانت فضيحة مدوية، لكني قابلتها بذات البرود المعتاد .. قلت لنفسي: هذه حكومتهم وهم قد حاولوا استضافة المونديال فتلقوا صفعة لأن استعداداتهم غير كافية .. ما لي أنا وهذا؟.. ولماذا يجب أن أنفعل؟
وقد اصطك الحس الشعبي المصري المرهف تعبيرًا مناسبًا للموقف هو (بلدهم يا عم).. نحن مجرد ضيوف هنا نعيش حياتنا على الهامش قدر الإمكان ..
الحقيقة أن هذا الاستقطاب الذي جعل الشعب والحكومة دولتين مختلفتين موجود منذ أواخر السبعينات ، وله عدة عوامل منها غياب الديمقراطية .. لا يمكنك أن تشعر بالانتماء لمشروع لا دخل لك فيه ولم يؤخذ برأيك في إنشائه، لكنهم يطالبونك بدفع ثمن فشله.
■ ■ ■
اجتماعات ومحادثات وجلسات مغلقة ومكالمات هاتفية تخبرنا بها الصحف .. لا تعرف أبدًا ما دار فيها .. المهم أن هناك من اجتمع ومن تكلم هاتفيًا .. والنتيجة هي أنك تمر بحالة أبوية فريدة .. أنت مجرد طفل يلهو في الصالة بينما أبوك يجلس في الصالون مع أصدقائه الكبار يقولون كلامًا لا تفهمه أنت ومن العيب أن تحاول أن تعرفه.. سوف تتحمل هذا لأنه أبوك.. لكن ماذا عن من ليس أباك ولا دور لك في وجوده هنا؟
■ ■ ■
كل شيء يتحرك برغم إرادتك وبلا أخذ رأيك .. وكما يقول العظيم محمود المليجي في فيلم (اسكندرية ليه؟): وعايزني أكسبها؟
نتيجة هذا تنمو اللامبالاة ويذبل التعاطف وتراقب وزير خارجيتك يُضرب في الحرم القدسي فلا تهتم .. هذه هي الصورة الأقل خطرًا, أما الصورة الأخطر فمثالها سقوط بغداد خلال ساعات ..لقد ذاب الجيش العراقي تمامًا لأن أفراده لم يستطيعوا الشعور بأنهم يدافعون عن بلادهم بل عن صدام .. صدام الذي ورطهم في حرب طاحنة مع إيران ثم غزا الكويت لأن (دماغه كده).. فلماذا يطالبهم بالموت في سبيله هو الذي لم يصغ لأحد سوى نفسه؟
هكذا تسير الأمور .. لكن مصر هي مصر .. بالتأكيد لم نفقد انتماءنا لمصر الهرم والنيل وأحمد شوقي والشيخ رفعت والفول والطعمية ورائحة النعناع في الحقل وصوت أم كلثوم في الليل وعم (بسيوني) الفلاح العجوز الجالس يشرب الشاي على المصطبة ليلاً، وحتى جندي الأمن المركزي الذي يرفض أن يطيع أمر ضابطه ويضرب المتظاهرة الحامل .. هذه هي (بلدنا يا عم).. مصر الحقيقية الولود التي لا يعرفونها، والتي بدأت ملامحها تتقلص ألمًا معلنة قرب ولادة جديدة!"
طبعا كانت الولادة هي 25 يناير 2011.. لكنهم قاموا بقتل الطفل واستأصلوا مبيضي الأم، وعادت بلدهم يا عم.. كان الشباب يقولون بعد الثورة أنهم لن يفعلوا كذا ولا كذا .. ولن يلقوا المخلفات في الشارع أو يعاكسوا البنات..ويقولون ساخرين إنهم: (لن يقولوا على البامية ياع) واليوم صارت البامية نفسها نوعًا من الخيال العلمي.