بما أننا في عصر الوسائط المتعددة..
فإنني أرجوك أن تستمع إلى صوت فيروز الرخيم وهي تغني : "لأجلك يا مدينة الصلاة.. يا زهرة المدائن"، بينما تطالع هذا المقال، وهذا لخلق الجو النفسي المناسب. كنت أستمع لهذه الأغنية في السبعينيات -وأنا طفل في المدرسة الابتدائية- فتدمع عيناي، وأتمنى أن أموت هناك. يمكنك كذلك أن تستمع لأغنية عبد الوهاب الجميلة "أصبح عندي الآن بندقية" من كلمات نزار قباني والتي غنتها أم كلثوم كذلك. وقتها كان عمر القضية عشرين عامًا فقط.. عشرين عامًا يبحث فيها عن أرض وعن هوية.. صحيح أن 67 عامًا تكسر وزن الأبيات لكنها الحقيقة القاسية!!
أولاً يجب أن نتذكر أن هذا الشهر يشهد مذبحة كفر قاسم يوم 29 أكتوبر عام 1956. تكلمت عنها في مقال سابق، لكننا اليوم نتحدث عن الأقصى والانتفاضة التي تزعزع إسرائيل، خاصة أنها قادمة من الداخل. من داخل الخط الأخضر، وليس لها قائد معروف يمكن التفاوض معه أو قطع رأسه. في هذا تذكرنا بانتفاضة الحجارة الرائعة التي هبت، بينما عرفات في الخارج.
لا أؤمن بالثورة بالسكاكين وأكره العنف، وأرى أن الفلسطينيين سيتأذون جدا من هذه الحرب. أعتقد أن أقوى وأروع انتفاضة عرفتها فلسطين هي انتفاضة أطفال الحجارة، لكن المستوطنين كانوا هم من بدأ العنف ككل مرة، وحرقوا أسرة فلسطينية كاملة واقتحموا الأقصى.. لهذا لم تعد اللعبة تتحمل ترف التحضر للأسف. تاريخ القدس والمسجد الأقصى تاريخ طويل يمثل أعنف درجة صراع بين دينين. وهنا تجد ترتيبًا زمنيًّا دقيقًا لمحاولات اقتحام المسجد من قبل إسرائيل، وإن لم يتطرق للمحاولات الأخيرة.
يذكر محمد حسنين هيكل أن الإسرائيليين عندما دخلوا القدس في عام 1967 هرع أحد الحاخامات إلى القائد الإسرائيلي يقول له: هذا هو الوقت المناسب كي تضع تحت قبة الصخرة عدة أطنان من الديناميت وتزيلها نهائيا. قال القائد الإسرائيلي إنه لا يتحمل عواقب هذا. قال الحاخام في جنون: ومن الذي يمكن أن يعترض طريقنا اليوم؟
قال القائد الإسرائيلي: هناك دول إسلامية صديقة مثل تركيا وإيران وباكستان (وقتها) وبالتأكيد يهمنا أن لا نخسرها.
عندها انصرف الحاخام وهو يبعثر لعناته، مؤكدًا أن القائد أضاع فرصته لصنع التاريخ. لكن العقلية الإسرائيلية لم تتخل عن هذا الحلم.
في 21 أغسطس عام 1969 حدث حريق مروع في المسجد الأقصى، في الجناح الشرقي للجامع القبْلي الموجود في الجهة الجنوبية. الفاعل هو سائح من أصل استرالي اسمه دنيس مايكل روهان زعمت التحقيقات الإسرائيلية أنه مخبول، ومصاب بمتلازمة القدس النفسية التي تجعل كثيرين يريدون تدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل، وقد تم ترحيله لاستراليا بعد التحقيقات، لكن غضبة العالم العربي كانت مخيفة فعلاً. الهجمة أدت لحرق منبر صلاح الدين ومحراب زكريا ومسجد عمر.. إلخ. حتى لو كان روهان مخبولاً، فلا شك أن إسرائيل عطلت عمليات الإطفاء عمدًا وقطعت المياه عن مكان الحرم. لعبة التواريخ الساخرة تظهر هنا بوضوح، فهذا اليوم هو يوم مذبحة الغوطة في سوريا عندما ضرب بشار شعبه بالغازات عام 2013، وفي نفس اليوم تمت تبرئة مبارك!
تتعدد حوادث الاقتحام بعد هذا، لكن أبرزها اقتحام شارون للمسجد في 28 سبتمبر عام 2000، ليلوث أقدس مقدسات المسلمين، ويقول في نفس الوقت إن إسرائيل يمكنها أن تعيش بسلام مع الفلسطينيين.
القدس لدى اليهود هي عاصمة مسيح الخلاص الآتي من نسل داوود. وفي كتاب (الأجاداة) القصصي الشفوي في التّلمود: (سيأتي اليهود إِلى القدس وسيأخذونها، وستمتلئ حدودها بالثروة). وفي تفسير التوراة صوّرت (القبالاة) (أورشليم) وكأنها المكان الذي سيفيض بالخير من السماء، ومنها يوزع على بقية العالم.
هدم المسجد الأقصى جزء لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية. لن يعود المسيح لمعركة (هرمجدون) ونهاية الزمن إلا بهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكل سليمان. وبالطبع نعرف أن لهذه العقيدة أتباعًا مخلصين من مسيحيي الولايات المتحدة البروتستانت المتعصبين وذوي الأعناق الحمراء ممن يسمونهم Jesus freaks. دعك من تاريخ طويل من الحفريات والأنفاق حتى صارت الأرض تحت المسجد أشبه ببيت نمل.
على كل حال اتفق معظم هذه المنظمات على هدم كل مساجد القدس مرة واحدة ساعة صلاة الجمعة على سبيل الإبادة كذلك.
عادل حمودة كتب مقالاً مهمًّا عن هذا في التسعينيات، وكان ذلك بسبب ظهور البقرة الحمراء المقدسة ميلودي في الجليل، والتي قامت مجموعة حاخامات بزيارتها في كفار حسيديم.. وقد باركوها واعتبروها مقدسة وأن الحين قد حان، وهذا يتزامن مع نهاية الألفية الثالثة للقدس عند اليهود. المفترض أن هذه البقرة ستحرق، وقد أعدوا ثياب الكهنة والسكاكين وكل شيء، ثم يتطهرون برمادها قبل دخول الهيكل، فهم يؤمنون أنهم نجسون ولا شيء يطهرهم سوى رماد البقرة.. ضمن طقوس معقدة شبه وثنية. ثم يتم توزيع رماد البقرة في زجاجات على كل يهود العالم! لا أعرف كيف تكفي البقرة كل هذه الملايين.
لحسن حظنا اكتشف الحاخام (شمار ياشوف) صاحب الذمة والضمير أن هناك بقعًا سوداء في جلد البقرة، وقد أخرج عدسة مكبرة ولاطف البقرة وفحص ذيلها فوجد بعض الشعيرات البيضاء، أما عن الأهداب فقد لاحظ أنها تبدأ حمراء وتنتهي سوداء. هذا أفسد دقة العملية، وهم شعب معروف بالتقوى ولا يقبل أنصاف الحلول. هكذا تم تأجيل العملية إلى حين، وقيل إنهم يحاولون بالهندسة الوراثية الوصول إلى بقرة متجانسة في مزرعة بالمسيسبي.
إقامة كنيس الخراب هي اللمسة الأخيرة هنا، وهو مشروع تتبناه الحكومة الإسرائيلية ماليا ومعنويا. هذا أكبر كنيس يهودي يقام على بعد أمتار من المسجد الأقصى وحسب نبوءة حاخام يهودي من القرن الثامن عشر، تقضي بأن يقام كنيس الخراب يوم 16 مارس عام 2010. لم تسمح الحكومة الإسرائيلية بإقامة الكنيس فوق المسجد الأقصى، وإن سمحت بإقامته فوق مسجد آخر وفوق بيوت حارة فلسطينية قديمة، على أن يكون أعلى وأشمخ من قبة الصخرة.
في كل مرة تغضب الشعوب العربية وتعم المظاهرات، لكن من الواضح أن المواطن المصري الذي خنقته الأنظمة الديكتاتورية وصعوبة العيش لم يعد قادرًا على مجرد الاحتجاج. ولو خرجت مظاهرات فلسوف تقمعها عصا الأمن الغليظة بكل سهولة. لهذا عندما نرى ما يحدث في القدس ندرك حقيقة مروعة هي أن السدادة الوحيدة التي تعوق إسرائيل عن هدم الأقصى، وتشعرها أن الأمر ليس مزحة، هي فلسطينيو الداخل.. لو انصرف هؤلاء فلسوف تهدم إسرائيل المسجد في نفس اليوم.
هناك سدادة أخرى واهية هي العلمانيون الإسرائيليون الذين يؤمنون بأن الهيكل خرافة، ولعبة الجينات التي تتحكم في لون البقرة!
يكفي أن ترى الآراء على فيسبوك لتدرك أن الفلسطينيين وحدهم تمامًا، بل هناك كثيرون يلومونهم على ترويع المستوطنين الأبرياء.
اسمح لي أن أعرض فقرة من مقال قديم لي، يتصور سيناريو ما بعد هدم الأقصى.
الكاتب مجاهد شرارة قال التالي:
- عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي عن أسفه لعملية التفجير ووصفها بعملية سيئة وألمح بأن من قام بهذه الفعلة بكل تأكيد مجنون، وبالطبع ليس على المجنون حرج.
- أدان الأمين العام للأمم المتحدة عملية التفجير في مؤتمر صحفي أقامه بالمقر العام للأمم المتحدة بنيويورك ووصف عملية التفجير بالعمل غير المسئول، وطالب الفلسطينيين بضبط النفس، أما الأمين العام للجامعة العربية فقد أعرب عن أسفه لما آلت إليه الأحداث ووصولها إلى الذروة بتفجير المسجد الأقصى، وطالب بقمة عربية طارئة لمناقشة المستجدات والوصول إلى موقف عربي موحد أمام هذه الغطرسة الإسرائيلية.
- عبر رئيس السلطة الفلسطينية عن سخطه.
- أطلقت كتائب عز الدين القسام وكتائب الأقصى وحركة الجهاد الفلسطيني مئات القذائف باتجاه المستوطنات اليهودية.
الجزيرة وقتها تخيلت أن: "آلاف المتظاهرين قد خرجوا في مصر الآن في تظاهرات كبيرة وغير منظمة، رغم تأخر الوقت والجو المُمطر، هناك أخبار عن صدامات بين طلاب جامعة القاهرة وقوات من الأمن المركزي سيئ السمعة، التي حاولت منعهم من احتلال جامعة القاهرة لإعلان غضبهم.. في ليبيا خرج أيضا الآلاف رافعين الأعلام الفلسطينية، وأحرقوا العلمين الأمريكي والإسرائيلي".
طبعًا يمكن أن نعتبر هذا الجزء من النبوءة تخريفًا. سيكون هناك مليون عريضة على البريد الإلكتروني.. إدانة شديدة اللهجة من أوباما والاتحاد الأوروبي واليونسكو بسبب هدم معلم أثري مهم.. سوف يكتب الشعراء قصائد ممتازة جدا عن المسجد الأقصى الذي كان لنا، ولسوف يبكي الجميع وهم يتناولون العشاء أمام التليفزيون، وتعلق ملصقات تقول: "أين أنت يا صلاح الدين؟". ثم لا شيء.. سوف ينقشع الغبار وينصرف الناس لطوابير الخبز وأنابيب البوتاجاز، ومتابعة مباريات الكرة. هل يوجد عندك سيناريو آخر؟ هذا هو ما سيحدث بالضبط بلا زيادة ولا نقصان.. لقد تعب المواطن العربي واستنزفته هموم الحياة، فلم يعد يبالي بشيء ما دام حيا. الفلسطينيون وحيدون تمامًا هذه المرة.
لم تهزمنا إسرائيل بهذه الأساطير، ولكنها هزمتنا بالديمقراطية والعلم والتقدم.. ومنذ عام 1968 قال الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين إنه لا سبيل لهزيمة إسرائيل إلا بتضييق الفجوة الحضارية بيننا وبينها، وهو ما لم نفعله قط. وما زالت الأنظمة العربية تضرب شعوبها وتقتلها أعنف بكثير مما تفعله إسرائيل مع أعدائها.
في النهاية أتذكر أبيات الشاعر مظفر النواب الرائعة القاسية: "القدس عروس عروبتكم.. فلماذا أدخلتم كل زناة الليل لغرفتها ووقفتم تسترقون السمع لصرخات بكارتها.. وطلبتم منها أن تصمت صونًا للعرض؟! أولاد الـقحـــ(....)!... هل تصمت مغتصبة؟". شاهده وهو يلقيها هنا.