أحببت كتابات بلال فضل كثيرًا واعتبرته من أفضل الأقلام التي قرأت لها، كما انبهرت بثقافته الموسوعية وقراءاته العديدة. لا أوافقه على كل آرائه لكني بالتأكيد أحترمها جميعًا. في إحدى الندوات قلت للحاضرين إنه - كعم فؤاد نجم وحجازي - طويل اللسان لا يمكن إسكاته، وهذه بالطبع صيغة مدح أستعملها كثيرًا جدًا كناية عن صراحته وشجاعته. نشرت إحدى الصحفيات ممن حضرن الندوة المقولة في مانشيت: "صرح أحمد خالد إن بلال فضل لسانه طويل!". كأن هذا موضوع الندوة الوحيد. تضايق جدًا من هذا – ومعه حق – وأرسل لي يتساءل: "هل رأيتني أشنع على أحد أو أظلم أحدًا؟". بالطبع كان تفسير حسن نيتي عسيرًا .
المهم أن بلالاً سافر للخارج لدراسة السيناريو، ومن هناك توالت مقالاته المعارضة للنظام بنغمة عالية جدًا لم يتخل فيها عن رشاقة أسلوبه وفنه، وهكذا هاجموه بشراسة سواء كانوا من المتعصبين أو اللجان الإلكترونية. واتهموه بالكثير
التهمة الأولى هي أنه يمني وليس مصريًا وعليه أن يصمت. السؤال هو: هل هو يمني فعلاً؟ ولو صح هذا فهل اليمني تهمة أو سبة؟. بيرم التونسي فنان مصري أشد مصرية من كل هؤلاء الذين يلوحون بالعلم، وفي الوقت نفسه ذو أصول تونسية أكيدة. اعتاد بيرم التونسي عندما يختلفون معه أن يتهموه بأنه تونسي:
الأوله مصر قالوا تونسي ونفوني
والتانية تونس وفيها الأهل جحدوني
لكن عندما يريدون الفخر يقررون أنه مصري أصيل. نفس الشيء يحدث مع وردة الجزائرية ومع فايزة أحمد. عندما يكسب المخرج محمد خان في مهرجانات دولية يفرحون لأنه مصري، وعندما تكرمه الدولة يتذكر المخرجون المنافسون أنه باكستاني ولا يجب تكريمه.
العبارة الثانية التي من أجلها كُتب هذا المقال هي: لماذا لا ترجع لمصر لتقول هذا الكلام؟ لماذا تقوله في الخارج؟
بالطبع هو منطق مستفز يفترض أننا في انجلترا. تحمل الآراء المعارضة في مصر والعالم العربي كله صفر، ومن المؤكد أن محاميًا (وطنيًا متحمسًا) سوف يرفع عليه قضية تلقيه في السجن بعد ربع ساعة من عودته لمصر.
تحضرني هنا قصة حكاها هيكل عن خروشوف عندما ألقى خطابه الشهير أمام الحزب الشيوعي بعد وفاة ستالين. كان هذا الخطاب عندي في كتيب وفقدته. هذا الخطاب قام فيه خروشوف بهدم صورة ستالين الأب العظيم تمامًا، وأظهر أنه سفاح يقتل معارضيه أو يلقي بهم في سجون سيبريا. لحظة فارقة صادمة لا ينساها أي سوفييتي وقتها، وخلها إيليا أهرنبورج في رواية (ذوبان الجليد). هنا وصلت خروشوف ورقة من وسط الحضور. فتح الورقة فوجد المكتوب فيها:
ـ"وأين كنت أنت وقت هذه التجاوزات يا رفيق؟"
نظر خروشوف للحاضرين نظرة نارية، وسأل:
ـ"من كاتب هذه الرسالة؟"
لا رد.. كرر السؤال مرتين بلا رد، فقال:
ـ"أنت تعرف أين كنت وقتها .. كنت في المكان الذي تجلس أنت فيه الآن!"
هكذا يضطر المعارض إلى انتقاء كلماته، والمشي فوق خيط رفيع جدًا، لأن من السهل جدًا أن يمنع من الكتابة أو يعتقل أو ينكل به، فيفقد الناس صوتًا مستنيرًا مهمًا. أو يضطر إلى الهجرة ليتكلم براحته ووقتها يتهمونه بأنه عميل للخارج يقبض مالاً كي يشتم الوطن. يقول التعبير الشائع: "إن قلت ما تخافشي.. وإن خفت ما تقولشي". هذا ليس صحيحًا دائمًا، فقد يكون الصمت عسيرًا أو غير مفيد، وقد يكون ثمن الكلام فادحًا جدًا. هناك دائمًا الحلول الوسط. وقد قلت لفنان كاريكاتور مشاغب وصديق عزيز: "اكتب أجرأ شيء يسمح لك بالاستمرار في نشر رسومك، لكن لا تتجاوز هذا الحد".
هذا عن الجدل السياسي، وهو موضوع طويل. إن حرية الكلام مطلب عزيز قامت من أجله ثورات وسالت دماء.
ننتقل إلى موضوع آخر هو الجدل الثيولوجي أو الديني، والقياس هنا يختلف، لأنني ضد المشي على الخيط في هذه الأمور... هنا بالفعل يصح تعبير: "إن قلت ما تخافشي.. وإن خفت ما تقولشي".
هناك كتاب يحملون شكوكًا في الدين أو لا يؤمنون به على الإطلاق. يحاولون التعبير عن رأيهم بطريقة مراوغة تتظاهر بمحاولة إصلاح الدين من الداخل، والحقيقة أنهم يتصادمون به كثيرًا جدًا. هناك مفكر قال إن الإسلام دعوة سياسية أساسًا لتكوين امبراطورية، تذرعت بشكل دين، وما الرسول إلا قائد عسكري ذكي. هناك من يهاجم حدودًا أو شعائر ثابتة في القرآن. وهي مدرسة: "أعتقد أن الإسلام فيه أخطاء كثيرة.. لكن إياك أن تتهمني بأنني لست مسلمًا.. أنت لم تشق صدري!"
قرأت عبارة جميلة لصديق عمري الدكتور أيمن الجندي، يناقش فيها أحد المفكرين الذي انتقد مفاهيم أصيلة في الإسلام، فقال له: "السؤال المهم هو: «هل هذا القرآن من عند الله تعالى أم لا؟» فإذا آمنت بالأصل الإلهى وجب عليك أن تعتقد فى أحكامه العدالة. وإذا لم تؤمن فلا معنى للتساؤل".
لكن هناك تهمة ازدراء الأديان التي ترغم الكاتب على عدم إعلان آرائه بشكل واضح، كما أنه مهدد بالانتحار اجتماعيًا، لذا يلعب هذه اللعبة: "هناك أخطاء.. لكن لا تتهمني في ديني". هذه طريقة خبيثة، ولو كنت كاتبًا يحمل هذا الفكر، فأنا أرى أن هناك حلولاً شريفة أكثر:
- أن يكتب الكاتب رأيه بشجاعة ويتحمل أن يصير فولتير. طبعًا أطالب بألا يطبق قانون ازدراء الأديان فيما يتعلق بالفكر أو الآراء الفلسفية، فهذه يُرد عليها بالفكر وبكتب مماثلة. ازدراء الأديان تهمة مطاطة يمكن للحكومات أن توسعها كما تشاء، وتسجن بها من تريد.
- أن يكتب الكاتب رأيه الصريح باسم مستعار وهناك على النت مدونات كثيرة كهذه، أو يهاجر ليكتب ما يريد على طريقة وفاء سلطان أو سلمان رشدي.
- أن يصمت ويعيش حياته الخاصة بما يتفق مع قناعاته.
لكني لا أطيق لعبة أن تكتب رواية – مثلاً – عن رجل طموح خدع الناس بتكوبن شركة وهمية، ووعد شركاءه بالثراء والزواج من السكرتيرة الحسناء في مكتبه لو نفذوا أوامره.. قديمة وسخيفة. أو طريقة: "تعالوا نناقش هل الصلاة فرضت فعلاً وهل آيات الصوم موجودة أصلاً أم لا.. لكن إياكم أن تشكّوا في إسلامي".
هكذا نجد أن الفارق كبير.. أقبل المراوغة مع الكاتب السياسي بحكم الاضطرار، بينما أجدها طريقة خبيثة جدًا مع المفكر الديني. وبالطبع في الحالتين تظل حرية الرأي والرد على الفكر بفكر هي الطريقة الوحيدة لضمان سلامة المجتمع وتوازنه.