قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, September 3, 2016

رجل لكل العصور


كل عام وأنت بخير. يتزامن عيد الأضحى هذا العام مع يوم 12 سبتمبر، وهو الذكرى السابعة لوفاة نورمان بورلوج. بورلوج الذي يعتبره كثيرون أعظم رجل عرفه القرنان، كما سنحكي حالاً.

تزامن هذا مع الكلام عن مشكلة القمح، ومع مقال نشر في 3 سبتمبر 2016 قرأته في الإيكونومست ويمكنك أن تقرأه هنا. المقال يثير الضيق والحزن، لكن يجب أن نتعامل معه بجدية بدلاً من أسلوب (إنهم يريدون تدمير مصر) الذي أوشك على تدمير مصر فعلاً. اسم المقال هو (عن الخبز والرشوة والفطريات)، ويتحدث عن الحكومة المصرية التي اشترطت مستوى منخفضًا جدًا من فطر الإرجوت لا يمكن الوصول له، مما دعى المورّدين لرفع أسعار القمح، واضطرت الحكومة المصرية للتراجع. يقول المقال إن الحكومة المصرية تعتمد على علماء مزيفين يتجاهلون عقودًا من الأدلة العلمية

تأمل قسوة العبارة (علماء مزيفون). لهجة المقال ثقيلة جدًا تتهم الحكومة المصرية بانعدام الكفاءة كليًا، وتقول إن القمح سيكلف مصر 860 مليون دولار عام 2016 برغم شحة مواردها الأجنبية. ازدواج المعايير والرشاوي يجعلون الأمر جحيمًا بالنسبة للموردين. لن أترجم المقال كاملاً حتى لا يتضايق من هم موجودون في كل العصور، الذين يعتبرون انتقاد الحكومة خيانة وهجومًا على مصر نفسها. فقط أردت القول إن معضلة القمح في مصر تبدو بلا حل فعلأً.

القمح .. القمح .. منذ تعلمت القراءة.. سلاح الضغط الدائم على مصر في كل زمن. منذ أيام السد العالي والضغط على عبد الناصر، أول انتفاضة شعبية كان اسمها (مظاهرات الخبز).. ثورة يناير كان شعارها (عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية).. 


في مثل هذا الشهر توفي العالم الكبير نورمان بورلوج، الرجل الذي يقال إنه أنقذ مليار بشري من الموت جوعًا. في هذا الفيلم تعرف لماذا هو عظيم.

كعادة العلماء الحقيقيين أعداء الضوء لم يتألق هذا الرجل إعلاميًا، ولا أعتقد أن كثيرين في مصر سمعوا بالاسم من قبل.  


ولد بورلوج في الولايات المتحدة عام 1914 وإن كان من أصل نرويجي. طفولته في ولاية أيوا علمته عشق النباتات، والتساؤل الدائم عن سبب نمو بعض النباتات بهذا الشكل الناجح بينما تفشل نباتات أخرى. حصل عام 1942 على دكتوراه في أمراض النباتات. وقد قام في مؤسسة روكفلر الأمريكية بسلسلة أبحاث عن تحسين زراعة الذرة والقمح، واستطاع بالهندسة الوراثية أن ينتج أنواعًا من القمح ذوات سوق أقصر، وهو ما كان يوفر مجهود النمو.

أشعل الرجل شرارة الثورة الخضراء كما يسمونها. شاهد هذا الفيلم القصير عن هذه الثورة الخضراء. وبفضل أبحاثه تحولت بعض الدول الفقيرة في المحاصيل مثل الهند والمكسيك إلى دول مكتفية ذاتيًا في حقبة الستينيات. في المكسيك عام 1944 قضى ساعات منهكة تحت الشمس الحارقة وسط الحقول، محاولاً إيجاد خير طريقة لزيادة محصول البلد التعس من القمح، ومحاولاً القضاء على مشكلة صدأ القمح. 

لهذا استنبت سلالات تملك طفرة تجعلها تقاوم داء صدأ القمح الوبيل. كان بوسعه زيادة إنتاجية القمح عن طريق زيادة السماد، لكن هذا كان يؤدي لنشوء سنابل ثقيلة تهوي بالنبات كله. لهذا صمم سلالات منكمشة (قزمة) ومكتنزة، لكن الحبة نفسها لم تنكمش.. وفي العام 1963 صارت المكسيك كلها تزرع النوع الجديد المسمى (بيتيك 62)، وتحصل على ستة أضعاف ما كانت تحصل عليه.

بالتالي تضاعفت إنتاجية نفس المساحة من الأرض أربع مرات. جرب نفس الطريقة بنجاح مع الأرز. شاهد هذا الفيلم القصير عن إنجازه. بالتالي صارت المكسيك مصدرة للقمح. 

في العام 1963 استدعته حكومة الهند لزرع هذا النوع من القمح هناك. كانت الهند في حرب مع باكستان كالعادة، وكلا البلدين في ورطة تصل إلى درجة المجاعة. عمل بيرلوج في ظروف شديدة القسوة، وكانت البذور لا تصل أو تحتجز عند الحدود حتى تتلف، مع الجهل الذي دفع الحكومات لرش البذور بالمبيدات مما قلل من إنتاجيتها، كما كانت طلقات المدافع تطير فوق رأسه.. لكن النتائج كانت واضحة وسرعان ما تضاعف إنتاج باكستان والهند من القمح بقدوم العام 1965.

حصل على جائزة نوبل عام 1970. ورد في تقديم لجنة نوبل التي منحته الجائزة أن (بروفيسور بورلوج ساهم أكثر من أي شخص آخر في توفير الخبز لعالم جائع). حصد كذلك أكثر من خمسين ميدالية فخرية.

كان هناك الكثير من المدافعين عن البيئة يعارضون الرجل، وهم يؤكدون أن العبث في الجينات يؤدي لكارثة .. في الحقيقة لم يستخدم الرجل الهندسة الجينية، لكنه استخدم قوانين الوراثة ببراعة وحصافة، ومارس نوعًا ذكيًا من الأيوجينيا. أي أنه استخدم ما كان الإنسان يفعله منذ عصور غابرة قبل أن يولد مصطلح (علم الزراعة). وقد تعامل مع ناقديه بنوع من الاستخفاف قائلاً:
ـ"من السهل أن تتكلم عن ترك الطبيعة تتصرف عندما لا تكون جائعًا، وعندما تجلس في مكتبك المريح المكيف في واشنطن أو بروكسل"

بصعوبة نقل جهوده إلى بوركينا فاسو وغانا وموزامبيق ونيجيريا ..وكانت المشكلة في البلدان الأفريقية وما زالت هي اضطرابات السياسة. لم يكتف الرجل بما حققه من مجد، ويبدو أن عفريت مالتوس – نبي الانفجار السكاني – كان يطارده بإلحاح طيلة حياته، لهذا أنشأ جائزة مالية لأفضل البحوث الزراعية. وكان يقول دومًا: "علينا أن نضاعف إنتاج العالم من الطعام قبل عام 2050".

السؤال الذي يلح على المرء هو: من الواضح أننا فشلنا تمامًا في حل مشكلة القمح، فلماذا لم نستقدم خبيرًا من وزن بورلوج ليضع سياسة ناجحة؟ لقد لجأت له دول عظيمة مثل الهند وباكستان واستعانت الصين بخبراته، فلماذا لم نفعل نحن شيئًا مماثلاً؟ خبير كهذا يستحق أي أرقام يحصل عليها كراتب، ولنفترض جدلاً أنه مدرب كرة قدم أجنبي، أو نعامله مثل مستشاري الوزارة الذين قيل إنهم ينالون مليارًا، إلا إذا كانت السياسة الأساسية للحكومة هي ألا تصير مصر بلدًا مكتفيًا في زراعة القمح أبدًا. لو كان هذا فأنا أقر بأنهم نجحوا نجاحًا ساحقًا.

نحن نحتاج لبورلوج آخر في الأمن والتعليم والاقتصاد والصحة. تكفينا تلك المحاولات الفاشلة المتخبطة.