قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, September 24, 2016

مجرد مذبحة أخرى



برغم كل شيء، لم أر في حياتي مذبحة واحدة يعاقب مرتكبوها، حتى تمنيت لو أنني كنت موجودًا بعد الحرب العالمية الثانية – على سبيل كسر الملل – لأنعم بالعدالة وهي تطبق على مجرمي النازيين في نورمبرج.

لا يمر شهر سبتمبر إلا وتذكرنا أنه فصل أسود على الفلسطينيين غالبًا، سواء بذكرى أيلول الأسود أو بمجزرة صبرا وشاتيلا التي تمت على مدى ثلاثة أيام في 16 سبتمبر عام 1982.

تبدأ القصة بتدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان عام 1949 قادمين من شمال فلسطين، وقد تبرع سعد الدين شاتيلا بأرض أقيم عليها مخيم للاجئين يحمل نفس الاسم، أما صبرا فهو حي ارتبط اسمه بأسرة لبنانية. ثم وقعت الحرب الأهلية اللبنانية وتم اجتياح إسرائيل للجنوب، ثم وقع اغتيال بشير الجميل كما ترى في هذا الفيلم الوثائقي هنا. وقد قرر حزب الكتائب أن يغرق الفلسطينيين في حمامات الدم على سبيل الانتقام من الاغتيال. 

هكذا تم ترتيب العملية..

لن تتدخل القوات الإسرائيلية إلا بمحاصرة المخيمين، وإطلاق الطلقات المضيئة التي تجعل الليل نهارًا، ثم يُسمح لرجال حزب الكتائب بالمرور عبر الحصار ودخول المخيمين حيث يوجد الفلسطينيون العزل. لم يكن هناك سلاح لأن المقاتلين خرجوا من بيروت. أي أن دور إسرائيل شبيه بدور من يفتح الباب ليدخل كلب مسعور إلى مدرسة أطفال، ثم يغلق الباب خلفه ليمنع فرار أي طفل. الفيلم الإسرائيلي (الرقص مع البشير) يشرح هذا الدور ببراعة. شاهد تريلر الفيلم هنا

هكذا ظل جنرال شارون يراقب المشهد في قلق، وعندما غربت شمس الخميس أطلق كلمة بدء العمليات: "أخضر". وهنا أطلقت المدفعية طلقاتها المضيئة لتنير سماء المخيمين. وظهرت قوات الكتائب لتقتحم المكان .. ثلاث فرق تتكون الفرقة من خمسين كلبًا مسعورًا.

قصة ما حدث حكاها الناجون مرارًا، وهي موثقة جيدا وسماعها يجلب الكوابيس لك بقية حياتك. يمكنك مشاهدة هذا الفيلم الوثائقي مثلاً. وهذا.

القصص تتكرر بنفس التفاصيل.. اقتحم رجال الكتائب كل بيت وذبحوا كل طفل واغتصبوا كل امرأة قبل ذبحها.. أما الرضع فقد طوحوهم من القدمين من أعلى البيوت، وقد تسلوا ببتر بعض الأطراف .. إلخ ... المهم أن شوارع المخيمين تحولت إلى كومة عالية من الأجساد .. شاهدت ناجيًا على قناة الجزيرة يصف مشهدًا لا يُصدّق، هو اقتياد أسرته كلها خارج البيت تمهيدًا لإعدامهم .. هنا فوجئ بأخيه الصغير الذي كان يحبو منذ دقائق، وقد صار قادرًا على المشي من فرط الرعب!.. وخرج في الطابور مع أهل الأسرة الذين قتلوا. حكاية تحطم الأعصاب لكنها ليست الوحيدة.

يوم السبت استطاع الصحفيون الأجانب دخول المخيم أخيرًا عندما سمح لهم الإسرائيليون، وكان المشهد لا يُصدّق لدرجة أن كثيرين منهم فقدوا الوعي .. دعك من الرائحة ومن الدماء في كل مكان. 



عندما انتهى الحفل كانت هناك 3600 جثة، أي أن القتل كان تقريبًا بمعدل 100 فلسطيني كل ساعة. الرقم متضارب على كل حال، وهناك عدة مصادر متباينة يدلي كل منها برقم مختلف، لكن روبرت فيسك الصحفي العالمي تحدث عن نحو 2000 قتيل، بينما تحدث الصحفي الإسرائيلي أمنون كابليوك عن أن الصليب الأحمر جمع 3000 جثة، بينما جمع أفراد الميليشيا 2000 جثة إضافية. يبدو أن الكتائب لم تطلق الكثير من الرصاص لأن القتل كان بالسلاح الأبيض غالبًا. 


كانت قوات الكتائب تحت قيادة إيلي حبيقة مجرم الحرب الذي لم يعش ليحاكم. كان شاهدًا خطيرًا يعرف أكثر من اللازم، لذا عندما قرر أن يذهب ليشهد في محكمة العدل الدولية في هولندا عام 2002 توفي في انفجار سيارة مفخخة، وهي ميتة سريعة سهلة لا يستحقها قطعًا. 


في 1 نوفمبر عام 1982 قامت الحكومة الإسرائيلية بعمل لجنة تحقيق في المذبحة، وهو موقف يبغي امتصاص غضب العالم، لكن لا يملك المرء إلا أن يعجب به برغم كل شيء. كم دولة عربية يمكن أن تجري تحقيقًا مع قائد قتل أعداءها؟ هذه مرحلة تالية لتحقيق الدول مع من قتل أبناء جلدته أنفسهم!

اللجنة اسمها لجنة كاهان، وقد حمّلت شارون مسئولية غير مباشرة عن المذبحة باعتباره كان قادرًا على منعها. وقد اضطر شارون إلى الاستقالة من منصبه كوزير دفاع وصار وزير دولة (أي صار وزيرًا بلا وزارة). من ضمن من أدانهم التقرير بيجين رئيس الحكومة وشامير وإيتان رئيس أركان الجيش الإسرائيلي وقتها. وفي 16 ديسمير 1982 أدان المجلس العمومي للأمم المتحدة المجزرة ووصفها بالإبادة الجماعية. لاحظ أن الأمم المتحدة لم تجرؤ على اعتبارها مجزرة إلا بعد ما قالت إسرائيل ذلك. 


قدم عدد كبير من الفنانين أعمالاً تتحدث عن المذبحة، ومن هؤلاء الرائع ناجي العلي بخطوطه المميزة التي تصف العذاب الفلسطيني، مع التهشير الكئيب المميز لرسومه. 


كنت طالبًا في الكلية وقتها، ولم أعرف شيئًا عن هذه المذبحة إلا بعدها من زميلة عائدة من بلد عربي، فلم تهتم الصحف المصرية تقريبًا بالكلام عنها، أو كان الكلام عنها خافتًا هامسًا فلم نعرف حجم الهول. في عصر لم تكن فيه فضائيات ولا إنترنت، كنا تحت رحمة ما تقدمه لنا وسائل إعلام تتحكم في حجم المعلومة وتوقيتها.

أعتقد أنه لابد من عمل متاحف لهذه المذبحة، تلح على ضمير العالم بلا توقف كما فعل اليهود مع الهولوكوست. مشكلة العرب هي أن دماءهم رخيصة جدًا.. رخيصة بشكل لا يوصف، وفي هذا يقع قدر كبير من اللوم عليهم هم أنفسهم.