قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, October 20, 2016

تماثيل رخام على الترعة

صوت عبد الحليم حافظ الرخيم يتدفق من سماعة التلفزيون ليملأ الغرفة، مفعمًا بالفخر والحماسة والأمل:
آديـك أهـه خـــدت العضـــويــة..
وصـبحــت فـى اللجـنـة الأسـاسيــة..
أبـو زيـد زمـانــك ، وحصــــانـك:
الكلمـــة ، والخـدمــة الـوطنيــــة..
ودى مسـئـوليــة..

لقد اعتدت هذه الكلمات في طفولتي وألفتها أذني، لهذا لم أشعر قط بغرابتها إلا اليوم، كأنك تكتشف للمرة الأولى بعد عشرة أعوام أن زميلتك في العمل لها شارب خفيف. أن يغني مطرب متحدثًا عن اللجنة الأساسية والخدمة الوطنية، لهو أمر عجيب حقًا، خاصة إذا جاء من شاعر في حجم صلاح جاهين وملحن في حجم كمال الطويل. عمر هذه الأغنية هو عمري بالضبط، وقد اختفت كمعظم رموز العهد الناصري أيام السادات، ثم عادت ثانية مع القناة الرائعة ماسبيرو زمان، وبالطبع في جو (الناصرية الصناعية) الذي نعيش فيه.

للنفاق رائحة كريهة مميزة مهما رششت حولها من عطور. رأيي أن عبد الحليم حافظ لم يكن ينافق في تلك اللحظات، بل كان مخدوعًا مسحورًا مؤمنًا بكل حرف يقوله. كان الكل مسحورين يشعرون أننا أقوى الأمم وأننا حققنا كل ما أردناه والباقي أعظم، ولهذا كانت الضربة ساحقة بعد ذلك بأربعة أعوام، ولهذا أعتبر أن الفنان صلاح جاهين توفي فعلاً في 5 يونيو 1967.

أتصفح الإنترنت على صوت الغناء، فأرى صورًا مؤسية لشهدائنا في سيناء. هؤلاء الذين عادوا لأمهاتهم مكفنين بلا جريرة سوى أنهم كلفوا بحماية حدود الوطن. اختلف أو لا تختلف مع قادة الجيش لكن دماء هؤلاء الجنود قد سالت من أجلك أنت. الدم المصري كله حرام سواء سال من معسكرك أو معسكر الآخرين.. هذه هي القاعدة التي لا يتزحزح عنها إلا مريض نفسي. ما أثار حفيظتي فعلاً هي نغمة المتاجرة بجثث هؤلاء الشهداء ودمائهم من أجل تحقيق نتائج سياسية. أن يعرض التلفزيون صورة ابنك وقد تحول إلى أشلاء، بلا داع سوى اللعب بعواطف هؤلاء الذين يصرخون من اجل ارتفاع سعر السكر وإسكاتهم. وهو طراز من الخداع المنطقي يُعرف باسم (التلويح بالعلم)، يصفه صمويل جونسون قائلاً: "الوطنية الزائفة هي آخر ملاجئ الأوغاد". أراهنك على أن وسائل الإعلام التي نشرت الصور لم تبال لحظة واحدة بهؤلاء الشهداء. هم مجرد وقود يُلقى في نار الدعاية السياسية. ما هذا الخلط؟ يطالبونك ألا تشكو من ارتفاع سعر الزيت أو فاتورة الكهرباء أو الدولار الذي تضاعف سعره في أقل من عام، وإلا فأنت تشمت في مقتل هؤلاء الجنود وأنت خائن لكفاح الوطن. هناك إرهاب فلا وقت للزيت.

عبد الحليم حافظ يغني:
ريسنـــا مــــلاح، ومعــدينـــا
عامــــل وفـــلاح، مـن أهالينـــا
ومنــا فينــا المــوج، والمـركـــب،
والصحبـــة، والــريس والزينــــة
نفـوت علـى الصحــرا، تخضــــر..
نشقـــى، خــدود النــاس تحمـــر..

هذا جو يذكرني جدًا بجو الثورة الثقافية في الاتحاد السوفييتي والصين، حيث كان رسم وجوه أعضاء الحزب الشيوعي أو المزارع الجماعية هو نوع الفن الوحيد المعترف به.

بينما أصغي للأغنية أتلقى بريديًا عشرات النسخ من فيديو سائق التوك توك الذي صار أشهر من نار على علم. واضح طبعًا أنه يتكلم بحرارة وصدق، والكلام يخرج من روحه مباشرة، لكنهم بالطبع سيجدون له علاقة مع الموساد وقطر والصرب وأنه أجرى ألف بروفة على هذا الكلام، وأن التي شيرت الذي يلبسه ثمنه ألف دولار. لكن المشاهد العادي تلقى صدق الرسالة وشعر بها. السائق صادق في رأيي لكن اللغز الوحيد هو نشر فيديو كهذا في قناة لم نعرف عنها معارضة، ولا يمكن أن تزعم أنه مر من تحت أنوفهم ولم يلاحظوه. لماذا الآن ؟ قال الناس إن سائق التوك توك اختفى قسريًا. لا أعتقد ذلك.. لقد صار أشهر من أن يُؤذى. أتذكر عبد المنعم أبو الفتوح الطالب الذي واجه السادات بكلمات قاسية عن نظامه مما أفقد السادات أعصابه. خرجت وقتها إشاعة قوية عن كون الطالب مات في حادث أليم. ظهر بعدها أبو الفتوح على الصفحة الأولى من أخبار اليوم ليعلن أنه سليم. بالطبع لم يكن أحد ليمسه بسوء وإلا لصارت الأمور واضحة تمامًا.

أغنية عبد الحليم تشعرني بالحيرة، خاصة أنها من عمري بالضبط. بعد كل هذه الأعوام لم نكف عن التجارب في كل اتجاه.. وفي كل مرة يقال إننا كنا مخطئين فيما سبق وقد بدأت النهضة الحقيقية. جربنا الكثير من الطرق المسدودة، وفي كل مرة نبدأ بداية نؤكد أنها صحيحة. متى حدث الخطأ ومتى ضاع الطريق؟ من الجلي أن الطريق الصحيح هو الذي لم نجربه بعد قط..

شـايفيـن رايتنـــا ف حضــن النسمـة
مـرفـرفــة بستـاشــــر نجـمـــة
حرية واشتراكية ووحدة
مكتــوب حروفهـــا بمليــــون وردة
علـى صـــدر بلـــدة عربيـــــة
معــرفـــش مـن أى الأقطــــــار،
صنـــاعة كبـــرى، ملاعـب خضـرا
تمـاثيـل رخـام، ع الترعــة، وأوبـرا
فــى كــل قريـــــة عربيـــــة!

تماثيل رخام على الترعة ودار أوبرا في كل قرية عربية!. هذا ما كان عبد الحليم يتخيله، وبعد 53 عامًا لا يبدو أن هذه الصورة تحققت جدًا.. حاليًا صار البحث عن كيلو سكر بعشرة جنيهات هو الهدف الأهم والأسمى. كيف لو رأى تمثال نفرتيتي الرهيب إياه أو تمثال (العقاد/ أحمد التباع) أو تمثال رجل كوتونيل!

عبد الحليم يشعر أنه جمح قليلاً فيفسر: 
دى مـاهيــش أمـانـى، وكـلام أغانـى،
ده بـر تانــى، قصــادنـا، قــريـب،
يـا معـداويـة
والمسئــوليـــة مـا بين أحضـاننـــا،
مقاديـــف، تقــربنـــا مـن البــر.
أصغــر مهمــــة، برضـك مهمــة..
دى الثــورة همــة، وذمــة، وديــن،
وإنســانيـــة..
نحـلف يميــن بالـلـــــه تعـالـى
نحـلف بقــوتنـــــا الفعـــالـــة،
الاتحـــاد الاشتــراكــى العـربــى.
نختــاره مبــــدأ، ورســـالـــة، ومسـئـولـيــة

كل الطرق تقود لروما، وكما قال د. جلال أمين فإن نوعية النظام الاقتصادي لا تهم، رأسماليًا كان أو اشتراكيًا، ما دامت النية صادقة ومادام شفافًا يحارب الفساد. وهو كلام يشبه إلى حد ما قصيدة مأمون الشناوي الجميلة:
يا ترسملونا.. ياتبلشفونا
لتموتونا.. وتخلصونا
احنا اللي نشقى.. نبص نلقى
خراب وسرقة.. من عند برقة ولحد سينا
وان قولنا.. لا.. بتضربونا.. وتسجنونا
يا ترسملونا يا تبلشوفنا
ياتموتونا وتخلصونا
ملعون.. أبوكم.. علي أبونا!!

وهي ما زالت دقيقة جدًا. فهو يطالب بالاستقرار على أي نظام: البلشفية والشيوعية أو الرأسمالية.. المهم ألا يسرقونا. فإن  لم يكن فلنمت وتنته مشاكلنا.

عبد الحليم حافظ ينهي أغنيته على ماسبيرو زمان، فأغلق التلفزيون. الشيء الوحيد الحقيقي وسط هذا كله هو دماء الشهداء الأطهار التي بللت رمال سيناء. رمال سيناء التي شربت عبر تاريخها جالونات لا حصر لها من الدم المصري الزكي حتى ثملت تمامًا. ليرحمهم الله ويرحمنا.