لست من هؤلاء الذين يرون أننا تمادينا في الاحتفاء بنصرنا الوحيد في 6 أكتوبر عام 1973، وأن الأمر بعد 43 عامًا صار مملاً ولا يستحق هذه الضوضاء، حتى كتب أحدهم إن حرب أكتوبر هي هدف مجدي عبد الغني الخاص بالجيش!
نفس هؤلاء الذين لا يريدون أن نعيش في احتفال دائم بهذا النصر، هم الذين لا يريدون أبدًا الخروج من مصيدة 1967 وكيف قضت على كل شيء فينا.. إلخ، حتى حولوها بالفعل إلى أعظم انتصارات إسرائيل، لأنها لم تهزم جيشًا بل هزمت إرادة شعب سيظل يولول للأبد بسبب هذه المأساة. لقد صار ترداد هذا مملاً، لكننا نكرر أن فرنسا كلها احتلت في ساعات، وألمانيا تمزقت واليابان تلقت قنبلتين نوويتين، لكن تلك شعوب أرادت أن تنهض ولم تُسحق إرادتها، ولم تقض وقتها مع تفاصيل حرب داحس والغبراء. كما أن الخلاف الأيديوبوجي مع عبد الناصر أغرى الكثيرين بالتلويح بلافتة 1967 لدرجة تقترب من الفخر والتهليل والشماتة. أنتم فخورون بالهزيمة وتحتفلون بها كل عام.. إذن دعونا نفتخر بالنصر كذلك لتكون اللعبة عادلة.
النقطة الثانية المهمة هي أننا نأخذ على الحكام أنهم يخلطون بين أنفسهم ومصر. أي أن من يهاجمهم يهاجم مصر، وهو أمر أشبعناه سخرية وانتقادًا، لكن الجميع يكرر ذات الخطأ. عندما يغضب الناس على قيادات الجيش أو المجلس العسكري، فلا يجب أن يمتد هذا ليشمل كراهية الجيش ذاته، وانتزاع بطولاته وتضحياته.. الجيش معنى كمعنى مصر نفسها، وأؤمن أنه القبضة الصارمة الوحيدة التي تمنع مصر من التشرذم بكل ما فيها من خلافات وتعصب، لهذا كنت أعترض أيام المجلس العسكري كلما شعرت أن الهجوم لا ينصبّ على المجلس ولكن على الجيش ذاته، لدرجة تمزيق صورة الجندي الذي يحتضن طفلاً المعلقة على الحافلات.
وأذكر أن أحدهم لامني وقتها لأن مقالي الأخير لم يهاجم الجيش سوى في موضعين فقط!.. والحقيقة هي أنني لم أهاجم الجيش قط في أي مقال. لا يجب للاختلاف السياسي أن ينسينا أن هذا جيش عبد المنعم رياض والجمصي والشاذلي وكمال حسن علي وعبد المنعم واصل ومحمد سعيد الماحي وأحمد حمدي.. إلخ. من المسلي أن تلاحظ أن التعصب يفقد المرء موضوعيته تمامًا. عندما تقول إن الكهرباء لم تعد تنقطع يُقال لك إنك عبد البيادة، فإذا قلت إن الأدوية مختفية والدولار أصابه الجنون ومستقبلنا مبهم، قيل لك إنك عبد المرشد. بالتأكيد لم تكن حرب أكتوبر هي هدف مجدي عبد الغني الخاص بالجيش.. وما زلت أرثي للأجيال التي لم تعشها لأنها لم تر إلا الظلام، بينما نحن بوسعنا أن نقول في ثقة إنه قبل الظلام كان نور. هناك من يحاول أن ينزع منا ذكرى هذا النور مؤكدًا أنه لم يكن هناك سوى ظلام طيلة الوقت..
اسمح لي بإعادة هذا المقال القديم لي، الذي كتبته عندما كان كيلو اللحم بأربعين جنيهًا!، لكنه ما زال صالحًا:
شارع (سعيد) الهادئ في هذه الساعة من نهار رمضان، وأنا أحمل الحقيبة التي امتلأت بأرغفة الخبز الساخن، راضيًا عن نفسي لأن الفرن كان خاليًا تقريبًا في هذا الوقت. كنت أنا المكلف بهذا الكابوس اليومي: شراء الخبز، ويكفي لأصف لك عذابي أن أقول إن طابور الخبز في ذلك الوقت كان يشبه الطوابير الحالية تمامًا!.
هناك كان واقفًا تحت شرفة في بناية بالشارع، شاب يبدو أنه جامعي ومن طبقة متوسطة يلبس ثياب الميدان الكاملة التي لم أرها من قبل إلا في الصور. الخوذة والجربندية على ظهره، وكان يرفع رأسه إلى الشرفة بالطابق الثالث وينادي:
ـ"صلاااااح!"
و(صلاح) لا يرد.. لا أعرف إلى أين كان الفتى ذاهبًا ولا لماذا كان هنا والحرب نشبت منذ خمسة أيام، لكن كل شيء يقول إنه ذاهب إلى وحدته مع (صلاح) صديقه الذي لا يرد. ذاهب للقتال طبعًا لا للتدريب..
إن هي إلا بضع ثوان حتى وقف فلاح وزوجته جوار الفتى، وراحا يناديان بأعلى صوتهما:
ـ"صلاااح!"
ثم ظهر ميكانيكي على دراجته وراح ينادي.. بعد دقيقة صار هناك عشرة ينادون (صلاح).. وتطوع أحدهم بأن يقذف طوبًا على الشرفة، بينما تطوع آخر بأن يصعد ليدق الباب، والمظاهرة تحت شرفة صلاح تتزايد، والجندي الشاب ينظر حوله فيبدو عليه الضيق والحرج من هذه الفضيحة..
ـ"صلااااح!"
بعد لحظة ظهر (صلاح) من الشرفة وهو بكامل ثيابه، هنا تعالى الهتاف والتصفيق.. والفلاح العجوز وثب ليعانق الفتى ويلثمه على خديه:
ـ"مع السلامة .. هات لنا رمل من سينا وانت جاي يا دفعة!"
وابتعدت حاملاً الخبز وأنا أفكر في مغزى هذا المشهد الذي ظل محفورًا في ذاكرتي خمسة وثلاثين عامًا. هؤلاء قوم يريدون عمل أي شيء.. أي شيء من أجل هذا الذاهب إلى الجبهة ليتلقى الرصاص ولربما يموت كي يظلوا هم أحياء أحرارًا.. أبسط شيء استطاعوا عمله هو مناداة صلاح، ولو طلب منهم الجندي الشاب أن يلثموا قدميه أو يحملوه إلى الجبهة حملاً لفعلوا بلا تردد..
كان مأمور قسم أول في طنطا صديق أبي، وقد زرته مع أبي أيامها فقال لنا وهو يشير إلى التخشيبة الخالية:
ـ"تصوروا أننا لا نجد لصوصًا نقبض عليهم منذ نشبت الحرب؟.. حتى اللصوص (اختشوا على دمهم)"
هذه كما لاحظت بعض ذكرياتي عن حرب أكتوبر عام 1973.. أما كيف بدأ كل شيء فلذلك قصة.. هل تسمعها؟.. إذن تعال وأعد لنا كوبين من الشاي الثقيل كي يحلو الكلام..
هذا أنا الصبي الذي دخل السنة الأولى الإعدادية، ولا يهتم بالسياسة على الإطلاق.. فقط يعرف أن إسرائيل دولة شريرة تقتل أطفال المدارس (بحر البقر) وتذبح الفلسطينيين وأسقطت طائرة ماما سلوى حجازي مذيعة الأطفال التي كنت أعشقها..
يوم السبت 6 أكتوبر هو ثاني يوم سبت لي منذ بداية العام الدراسي.. رمضان بدأ منذ عشرة أيام، وفي ذلك الوقت كان أكتوبر يعني جوًا معتدلاً لهذا لم يكن الصيام صعبًا علي.. أعود لداري بعد الواجبات الضرورية من ركل عصام وخطف حقيبة مصطفى ولكم عادل..
هناك شيء غريب.. كل الناس يلتفون حول أجهزة الراديو. الكل قلق.. ماذا حدث؟.. لم أر هذا المشهد إلا وأنا في الصف الثالث الابتدائي يوم وفاة (جمال عبد الناصر).. لكن لا أحد يبكي..
في البيت تخبرني أمي أن الحرب نشبت. جيشنا عبر قناة السويس. أختي طالبة الطب عادت للبيت بسرعة وأخبرتهم أنها ستكون في المستشفى لساعة متأخرة لأن المستشفيات كلها معدة لاستقبال الجرحى.. الراديو لا يهمد لحظة: بيان رقم اثنين من القيادة العليا للقوات المسلحة... بيان رقم ثلاثة....
تحول أمي المؤشر إلى إذاعة لندن التي كانوا يشوشون عليها بصفارة كئيبة عالية، فلا نفهم شيئًا. تحول المؤشر إلى إسرائيل فنسمع مذيعًا أخنف يقول في حسرة مصطنعة إن السادات ارتكب خطأ عمره باستفزاز أقوى جيش في المنطقة.. مسكين أنت أيها الجيش المصري.. مسكين أنت أيها الشعب المصري.. تتقلص أمعائي رعبًا.. أبي يشخط في أمي ويطالبها بتغيير المحطة.
عرفت بعد هذا أن إسرائيل كلها كانت في ألعن لحظاتها، ولم يصدق قادتها ما يحدث لهم.. موشى ديان بكى أمام الصحفيين العالميين، وجولدا مائير طلبت تركيب الرءوس النووية على الصواريخ، وهو سيناريو النهاية (ميكرع هاكول) لدى إسرائيل..
عندما جاء المساء عرفت خبرًا سرني بطبيعة الحال هو أن المدرسة مغلقة لأجل غير مسمى (لقد عادت إجازة الصيف)، وخبرًا ساءني هو أن فوازير (ثلاثي أضواء المسرح) وكل الطقوس التلفزيونية إياها قد تم وقفها.. من المستحيل أن يموت أبناؤنا هناك فوق الرمال ونحن نسمع الفوازير طبعًا.
في الليل أصحو في ساعة متأخرة لأسمع البناية كلها تترجرج.. رائحة البارود في هواء الليل، ويخبرني أبي أنها بطاريات الدفاع الجوي في مطار محلة مرحوم تطلق القذائف على غارة..
أمي تتساءل عن كل هؤلاء الذين يحاربون الآن في الرمال والظلام ولم يظفروا – يا كبدي – بساعة راحة منذ ظهر السبت.. فجأة صارت أم هؤلاء جميعًا..
في اليومين التاليين تتضح الأمور أكثر، ونعرف أننا حققنا معجزة فعلاً، وأن البيانات التي نسمعها تختلف كثيرًا عن بيانات 1967 (المضروبة). الأخبار السارة تتوالى.. تقدُم .. تقدُم .. السوريون يجتاحون الجولان وقواتنا تسحق لواء مدرعًا بالكامل وتأسر قائده.. لم أنس الاسم بعد كل هذه السنوات: عساف ياجوري، وهو شيء خمول بدين يدخن بإفراط وله لُغد.
شارع البحر كله ينظر للسماء وقد خيل لنا كأن المعركة تدور فوق سنترال المدينة.. في الحقيقة كانت بعيدة جدًا.. هناك طائرات إسرائيلية تحلق، بينما تطاردها طائراتنا.. تعلمنا شكل الميج والفانتوم من على هذه المسافة. طائرة إسرائيلية تهوي.. ثم تبتعد طائراتنا ليظهر خيط من الدخان من مكان ما.. إنه الاختراع السوفييتي الرهيب (سام -7). نرى الطائرة الإسرائيلية تعلو وتهبط بينما خيط الدخان يقتفي أثرها في إصرار وعناد، وفي النهاية يلتقي خيطا الدخان ليصيرا خيطًا واحدًا يهوي بعيدًا.. بعيدًا.. باي باي يا حاييم أو يا ليفي أو يا أموتاي.. فلتكن ميتتك أبطأ وأبشع من ميتة سلوى حجازي..
في هذه الفترة جعلت بطاريات الصواريخ المصرية سماءنا منطقة موت للطائرات الإسرائيلية، وأصدر قائد الطيران الإسرائيلي أمرًا بالابتعاد أكثر من عشرة كيلومترات شرق القناة. وكانت الصحف تظهر مليئة بصور الأسرى الإسرائيليين الذين وصفهم أحمد رجب بـ (الذئاب الجربانة التي تحتاج لمحضر اشتباه وتحري)، كما أذكر صورة رهيبة بعض الشيء لجثة متفحمة لطيار إسرائيلي مقيد بالسلاسل.. قال الخبر إن الإسرائيليين يقيدون طياريهم في الطائرات كي لا يبادروا بالقفز منها بمجرد رؤية الصاروخ سام -7..
قائد المدرعات الاسرائيلي – أعتقد أنه موردخاي هود – يجري اتصالاً مدته ثوان مع قاعدته.. يلتقط سلاح إشارتنا المكالمة، وهنا تنطلق طائرة قاذفة مصرية بسرعة البرق نحو مصدر المكالمة في سيناء وتطلق صاروخًا ينسف الرجل وسيارته وتعود!... جرى إيه يا جدعان؟.. هل نحن نتكلم عن مصر أم بريطانيا العظمى؟ و في كتابه المهم عن الحرب يقول (عبد الستار طويلة): "كانت هذه أول حرب تعرفها مصر يقول فيها الضابط لجنوده (اتبعوني) بدلاً من (تقدموا)!"
نسمع اسم (عبد العاطي) صائد الدبابات الذي نسف 25 دبابة وحده.. عندما رأينا الدبابة عن كثب في معرض الغنائم، بدت لنا مخيفة رهيبة أكثر بمراحل من الصور، وقد تساءلنا عن نوعية الأعصاب ومدى الشجاعة التي يجب أن يمتلكها المرء كي يواجه هذا الديناصور وهو على قدميه.. هؤلاء لم يكونوا رجالاً.. كانوا أساطير حية...
في كل مكان كنا ثملين بما تحقق، وندعو الله أن يحفظه لنا..
صحيح أن الحماسة أعمتنا ولم ندرك أن مسار الحرب يتغير، وأنه عندما وقف السادات ليحيي الجماهير في أول خطاب له بعد نشوب الحرب، وعندما التهبت أكفنا بالتصفيق وكانت الشوارع خالية تمامًا، كانت الدبابات الإسرائيلية قد دخلت السويس ضمن عملية (الغزالة) التي خطط لها شارون، ولم نعرف الكثير عن حصار الجيش الثالث. قد تصدق الإسرائيليين الذين يعتبرون أنهم أحالوا نصرنا هزيمة، وقد تصدق كيسنجر الذي قال لجولدا مائير: أنت انتصرت عسكريًا وخسرت استراتيجيًا، لأن أسطورة الجيش الذي لا يقهر انتهت للأبد، وقد تصدق الخبير الاستراتيجي العالمي (أندريه بوفر) الذي زار المنطقة وقال إن الثغرة عملية تلفزيونية لا قيمة لها من أي نوع..
فقط كانت الشعلة متوقدة، وكنا نستطيع وقتها أن نحارب العالم كله. الحرب عمل كريه مقيت لكنه شر لابد منه كي يجدد دماء الأمم ويقوي عزيمتها ويوحدها، وكما قال هيكل: لا يوجد طرف في العالم أعلن أن السلام خيار استراتيجي، لأنه عندما يستخزي طرف فإنه يدعو الطرف الآخر تلقائيًا لأن يستقوي.
أتذكر هذه الحرب اليوم وأتساءل عما فعلناه لكل هؤلاء العظام؟.. أين هم؟.. أين ذهب الفتى و(صلاح) صديقه؟.. ومن الذي جنى ما زرعوه؟.. هل كانوا يموتون فوق الرمال كي يتاح لمليارديرات اليوم أن يصطافوا في (شرم) – لم تعد (شرم الشيخ) على فكرة – وأن يذهب الشباب هناك للظفر بليلة مع سائحة إسرائيلية أو روسية؟. هل خطر لعبد العاطي وهو يصوب صاروخه (الساجر) نحو تلك الدبابة أنه سيدوخ بعد الحرب بحثًا عن شقة؟.. وأنه سيموت فلا تهتز الدنيا؟.. وأن الإسرائيليين سيتوغلون في كل شيء حتى السد العالي نفسه؟.. وأن العبارة ستغرق والدويقة ستنهار والمسرح سيحترق وكيلو اللحم سيتجاوز الأربعين جنيهًا؟.. لحسن الحظ أنه لم يفكر وقتها في ذلك كله.. فقط أحكم التصويب وضغط الزناد.