قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, November 22, 2017

علاقات زوجية - 2



لم يكن ثمة مجال للخطأ فاللبن في كل مكان من الحمام.. لا أحد يخطئ ويسكب اللبن – حتى لو فسد – هناك. وقد شعر بدرجة من التقزز فالمصريون يعتبرون اللبن والعسل سائلين مقدسين نوعًا لا يقبلان الإهانة..

تناول كوز الماء المعدني وراح يحاول غسل هذه المأساة، وبالطبع أدرك أنه لن يكلمها عن هذا. إما أن تكون هذه آخر شعرة في عقلها فتنفجر فيه، وإما أن تؤكد وتقسم أنها لم تفعل وأن الجان هو الفاعل..

أنت لا تستطيع لوم نوال على شيء.. اللوم يحتاج إلى درجة من المودة والتواصل غير موجودة هنا..

مرت عدة أيام من الصمت، لكنه بدأ يلاحظ ممارسات أعقد.. هناك كيس الغبار الموضوع على البوفيه. بالتأكيد هو غبار مقابر. لقد جاء دوره منذ زمن، وهو لا يجرؤ على فتح اللفافة..

ما فعله هو أنه حمل اللفافة وألقاها في صفيحة القمامة وأغلقها، وفي اليوم الثاني كانت زوجته تفتش كالمسعورة عن هذا الشيء المختفي. شعرها الأشيب ونظراتها المجنونة وبدانتها وهي تمشي كالبطة محاولة أن تحرك عظمتي الحرقف.. لكنها والحق يقال كانت تمشي بسرعة وخفة، وكم من مرة فوجئ من خلفه بوجودها. لقد دخلت الغرفة دون أن يعرف كيف ولا متى..

كان يفضل الصمت، وراح يتردد على المقهى لساعات أطول لدرجة أنه نام ذات مرة وهو جالس على المقعد الخشبي فبردت القهوة التي طلبها. ولم يفق إلا مع لمسة من يد القهوجي على ساعده..

ـ«خير يا أستاذ حسن!.. هل أنت مريض؟»

ـ«أنا بخير.. فقط لم أنم بما يكفي»

صار مع الوقت يخشى لحظة العودة للبيت، خاصة عندما تجلس معه أمام التلفزيون لمشاهدة المسلسلات.. شفتاها تتحركان بكلمات هامسة طيلة الوقت. لم يعرف قط ما تقوله لكنه كان يخشاه..

أرسل لابنته في كندا خطابًا طويلاً.. يكتب بصعوبة بسبب مشاكل البصر.. كتب لها يقول إنهما بخير من الناحية الصحية والمادية، لكن عقل أمها لم يعد على ما يرام. كان يدرك أن الابنة سوف تتجاهل هذا.. تهمة الجنون تلصق بأمها في كل المشاجرات الزوجية منذ زمن، وسوف تعتبرها الابنة تهمة أخرى. كان هو قد اتهم أسرتها كلها بأنها تحمل جينات الجنون.. أطلق هذا الاتهام منذ عشرين سنة..

اتصل بابنه في الإسكندرية وقال له إنهما بخير..

ـ«ألا تنوي أن تمر علينا قليلاً؟»

«هل هناك مشكلة ما؟»

ـ«قلت لك إننا بخير.. لكن حالة أمك العقلية تثير قلقي»

«مثل…؟»

ـ«تزداد إيمانًا بالسحر والجن والعفاريت.. إنها تلك المرأة المسنة أم عزيزة. جعلتها تعيش في عالم من الشياطين تراهم وتلمسهم كل يوم.. لا أعرف ما أفعله. ربما لو أنك زرتنا بعض الوقت»

كالعادة لا وقت لدى هذا النذل كي يساعد في إعادة الدفء لبيتهما.. أنا مشغول جدًا يا بابا.. خلافاتكما شيء لا يمكن إصلاحه إلا من خلال علاقتكما ببعض.. لكن.. سوف آتي للقاهرة لكن ليس هذا الشهر أرجوك.. أنت تعرف ظروف البيت والأولاد والعمل..

هكذا وضع السماعة وقرر أن الله هو الحافظ الوحيد. لن يستطيع أحد أن يعيد زوجته للتعقل سوى زوجته أو أم عزيزة..

صار الأمر لا يطاق عندما فتح صفيحة القمامة ذات يوم فوجد فيها حشدًا من الحمام المختنق.. حمام ميت لا يقل عدده عن عشر.. نادى زوجته في غضب وقال لها إن الأمر لا يطاق.. لن تزعم أنها اشترت هذا الحمام ميتًا.. لن يمر وقت طويل قبل أن تمتلئ هذه الصفيحة بالوطاويط..

قالت في تبجح:
ـ«وكيف لي أن أعرف؟ أنا لم أضعه هنا»

ـ«وأنا كذلك لم أضعه هنا»

ـ«إذن هم بسم الله الرحمن الرحيم.. ليس لدي تفسير آخر»

ثم أشعلت لفافة تبغ وابتعدت تاركة إياه يغلي غيظًا..

في ليلة 18 ديسمبر ذهب إلى المقهى. كانت هناك مباراة كرة لا يهتم بها، لكنه راح يتابعها ويهلل وهو يحسو القهوة.. جاء رجائي المحامي المسن وجلس معه. شلة المقهى تكتمل ككل ليلة وهم كلهم مسنون سوف يموتون واحدًا تلو الآخر. رجائي المحامي في الستين الآن ويعاني الصلع لكنه يصفف شعره بالماء والفازلين بطريقة تغطي هذه الصلعة تمامًا، لكن هذه العجينة تتلاشى في لحظة بعينها فيبدو منتفش الشعر كالديك.

لما انتهت المباراة وبدأ المقهى يخلو من الزبائن قال له رجائي:
ـ«تبدو مرهقًا حزينًا»

«إنها نوال كالعادة»

«لم لا تفكر في الطلاق؟.. يجب أن تمضي آخر أعوام لك في سلام»

ـ«تعنى بي»

ـ«يمكنك أن تجد من تعنى بك بأجر.. أو اذهب لتقيم عند ابنك في الإسكندرية»

لكنه كان يعرف أفضل.. هو وزوجته أفضل اثنين لبعضهما حاليًا، وعلى الأقل لن يموت أحدهما جوعًا.. ليس أمامه من ملجأ سواها في الأعوام القليلة الباقية.. لن يتركها تموت وحيدة ولن تتركه يموت وحيدًا. لربما كان الموت في وجود غول معك في الغرفة أفضل نوعًا من الموت وحيدًا.

ودع رجائي ووعده بأن يهتم بصحته.. ثم عاد في بطء وتثاقل للبيت، وهو يشعر بأن المسافة عدة أميال. المشكلة هي صعود الدرج المتعب.. المشكلة هي نزع الثياب الثقيلة.. المشكلة هي النوم جوار تلك الشمطاء. لكن العشاء ينتظره على الأقل..

في الأيام التالية صار أكثر بقاء في البيت، وصار ينام على الأريكة ساعات طويلة وفمه مفتوح من إرهاق.. حتى أنه قدر ساعات نومه بخمس عشرة ساعة يوميًا.. ليس أقل من هذا.. ولم تكن هي توقظه أبدًا..

هل هي تمارس السحر معه؟ هل تدس له شيئًا في طعامه؟ لم يبدُ له هذا منطقيًا فهي في النهاية لا ترغب في حياة الوحدة.. امرأة مزعجة لكنها بشرية على كل حال..

الجواب هو أنه يتقدم في العمر.. لا شك في هذا.. الباب الذي في نهاية الردهة بدأ ينفتح..

كان جالسًا يشاهد مسلسلاً سخيفًا في الصالة وهي في غرفة النوم، عندما شعر بسخونة غير عادية.. ماذا حدث؟ نحن في ديسمبر.. العرق يسيل وصفير مدو في أذنه.. ماذا يحدث؟.. صداع رهيب كأن هناك من يشق رأسه بمنشار. العرق.. إنني أختنق.. الصالة تظلم وشاشة التلفزيون تشحب..

«نوااال!»

قالها في رعب لكن الصوت خرج مكتومًا.. أدرك أنه لا يستطيع الكلام بشكل صحيح. الحروف تخرج من فمه معجونة..

عندما حاول النهوض أدرك أنه لا يملك القدرة بتاتًا.. جسده متدلٍ بلا حبال تمسك به. الصفير يتعالى.. إنه الفالج لا شك في هذا.. هناك سكتة دماغية أو جلطة أو نزف.. المهم أنه شيء ما لعين حدث هناك…

نوال.. ناداها في وهن…

كان وعيه ينسحب ببطء وخطر له أن هذا هو الموت..

يُتبع