قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, February 10, 2008

فتاة رقيـقة

كانت (هبة) فتاة حساسة رقيقة· الجميع يعرف هذا· والأهم أنها تعرف ذلك·

عندما أراجع المدونات التي تكتبها الفتيات أو الأسماء اللاتي يستعملنها في برامج الثرثرة (الشات)، فإنني أندهش من الصورة التي ترسمها الفتاة لنفسها عندما تتخذ اسمًا: الملاك الحساس، بسكويتة، القطة الشقية، الحلوة···!

نرجسية لا توصف، وإعجاب بالنفس لا حد له· من الصعب أن تقنع نفسك بأن هذه الفتاة تخاطب نفسها وإنما تحسبها عاشقًا يغازل فتاة·· فقط العاشق هو من يطلق على حبيبته اسم (بسكويتة)، أما أن يطلق الشخص على نفسه هذا الاسم، فتصرف غريب يدل على أنه يعاني حالة عشق للنفس مفرطة·

يقول (أوسكار وايلد): "الشخص الحساس هو شخص لأنه يعاني ألمًا في قدمه فهو لا يكف عن وطء أقدام الآخرين"· وأنا أصدقه·· إن الأشخاص الحساسين هم أشخاص يعتقدون أنهم كذلك· كل تفكيرهم منقلب للداخل· لا يفكرون إلا في أنفسهم وآلامهم·

كلما تلقيت مكالمة من (هبة) عرفت ما سوف تقوله على الفور· لابد من العبارة التالية:
"آه يا ربي·· أنا مرهفة رقيقة وسط كون لا يفهمني· لا أحد يفهم كم أنت حساس رقيق."

هذه نقطة مهمة لهذه النوعية من الفتيات: الكون ينقسم إلى من لا يفهمون، وهؤلاء الذين لم تلقهم بعد··· الذين لم تلقهم بعد ينتظرون دورهم كي يصيروا ممن لا يفهمون·

الصداع وآلام المعدة جزء من أسلوب حياة هؤلاء الفتيات· من خبرتي الطبية أعرف أنهن يصبن بالصداع قبل أن يعرفن أن لديهن رأساً·

تمشي معي هبة في الشارع فيجري وراءنا ذلك الطفل ممزق الثياب ويطلب منها بعض المال، فتشخط فيه وتحمر عينيها حتى ليوشك الشرر أن يخرج منها·· ثم تواصل كلامها معي:
"الناس قد تغيرت والنفوس لم تعد كما كانت· لي صديقة كنت أحبها وتحبني ثم تغيرت ونقلت عني كلامًا كاذباً لواحدة أخرى، وهذه الأخرى كانت قد نقلت عني كلاما لواحدة قالت عني كلاما سيئا."

نقف على باب الكافتيريا، هنا نرى قطة صغيرة تموء من الجوع ويبدو أن سيارة يقودها وغد ما قد هشمت ساقها الأمامية· تقول (هبة) وهي تفتح باب المطعم:
"أنا أحب القطط الصغيرة لأنني مرهفة الحس··· كنت أحكي لك عن صديقتي· لا أعرف كيف سمح لها ضميرها بذلك، ولا كيف استباحته لنفسها· قطعت علاقتي بها لكن الجرح ما زال ينزف···''

نجلس إلى مائدة في المطعم وأطلب الساقي· نرفع رأسينا للتلفزيون المعلق هناك والذي يعرض مشاهد من نشرات الأخبار· هناك من يبكون ويصرخون والدم ينزف من جراحهم في غزة، ثم تنتقل الكاميرا إلى ضحايا حادث قطار ممزقين في روسيا، ثم نرى مشاهد من اضطرابات كينيا· يقول التقرير إن القتل والاغتصاب في كل مكان·

أطلب من الساقي أن يحول القناة· لو كنا قد جئنا هنا كي نتعذب فمن الأسهل أن نفعل ذلك مجانًا في بيوتنا، لكن هبة تواصل الكلام:
"لقد تخلى عني أعز إنسان عندي وهو من وثقت به جدًا، فنقل عني كلاما محرفًا لطرف ثالث لا يهمك أن تعرفه· وما دهشت له هو كون النفوس تتغير من لحظة لأخرى."

ثم بدأ الدمع يتجمد في عينيها··· وهمست:
"مشكلتي هي أنهم لا يعرفون كم أنا حساسة· أبي لا يفهم هذا· أخي لا يفهم هذا· أنت لا تفهم هذا···''

على القناة التي نراها على الشاشة رجل فقد ذراعيه وساقيه في الحرب وهو يزحف على الأرض· ما هذا المطعم؟ هل هو مطعم خاص لهواة أفلام الرعب؟ لكنها لم تلحظ شيئًا لأنها كانت تتكلم عن الصداع الذي لا يفارقها· هذا من حسن الحظ لأنها حساسة ولن تتحمل مشهدًا كهذا·

عندما خرجنا أخيرًا بعد نصف ساعة كان رأسي يرتج من الداخل من فرط ما سمعته، وشعرت بأنه يزن طنَّيْن وأن ساقي لا تتحملان وزن رأسي·

كانت القطة الصغيرة الجائعة تنتظرنا على الباب، فركلتها (هبة) ركلة خفيفة بطرف حذائها لتبعدها، وقالت:
"أنا أحب القطط والأطفال فعلاً· أحيانًا أشعر بأنني ملاك مرهف جاء من عالم آخر إلى هذا العالم الذي يعج بالشياطين· ألا ترى هذا معي؟''

قلت لها وأنا أنظر للقطة التي راحت تبادلني النظرات المندهشة:
"فعلاً·· أنت ملاك·· فقط لو قابلت من يفهمك·· لا تقلقي·· هذا الملاك موجود في مكان ما ويوم يجمعك الله به سيتعذب اثنان بدلاً من أربعة!''