قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, April 27, 2008

نبيذ و فحم

الاتحاد - 27 أبريل 2008


فى إحدى قصص (استريكس) المصورة الطريفة كانت هناك قرية غالية لا يمارس أهلها إلا نشاطا واحدا هو بيع النبيذ والفحم. الكل يبيع النبيذ والفحم لدرجة أن أهل القرية صاروا يشترون ما يحتاجون إليه من بعضهم

لماذا أتذكر هذه القصة الآن؟ ربما نعرف السبب بعد قراءة المقال

بدأ الأمر كظاهرة هامسة.. نوع من الطفح الجلدي البسيط الذي لا تراه إلا بالتدقيق وفي إضاءة ممتازة، ثم بدأ يتفاقم يوما تلو الآخر حتى أدركت في هلع أنه مرض جلدي عضال مرعب أصاب كل شيء

مع ظهور الإنترنت، ومع ظاهرة المدونات صار كل شاب قادرا على أن يكتب وينشر ما كتبه في اللحظة ذاتها، ثم صارت هناك ظاهرة فريدة هي أن كل شاب صار أديبا.. كلما قابلت أحدهم قال لي:
 ''ألم تعرف أن مجموعتي القصصية الجديدة ستصدر قريبا؟''

وأنظر للشاب فأجد أن سنه لا تتجاوز الثالثة والعشرين، وهذا لا يعني شيئا بالطبع لأن الموهبة لا سن لها، وموتسارت كتب أولى سيمفونياته في سن السادسة، لكن الكتابة الأدبية نشاط بشري يختلف، لأنه يحتاج إلى أن - تصور هذا - تقرأ كثيرا جدا، وأن تمر بعدد من التجارب الإنسانية الطاحنة المريرة. ما هي نوعية التجارب التي يمكن أن يمر بها شاب في هذه السن أعنف من توبيخ المعلم أو حب ابنة الجيران؟

إنه كذلك يريد النشر، وهو ما وصفه ببراعة الساخر الأمريكي مارك توين عندما قال: ''حتى الإسكافي لا يعرض أول حذاء قام بتفصيله للبيع ولا يجرؤ، لكن الأديب الشاب يريد بحماس أن ينشر أول عمل له مهما كان، ويغضب جدا لو لم يسمح له أحد بذلك''

لكنني أقر أن الأمر يتوقف على العمل نفسه على كل حال، وآمل في كل مرة أن أكون حمارا وأن أفاجأ بتحفة فنية لا تقل روعة عما كان (أبو القاسم الشابي) يكتبه وهو في العشرين من عمره.. للأسف يتضح غالبا أنني لست الحمار الذي تمنيته وأن الشاب يدور فعلاً في فلك لوم المعلم وحب ابنة الجيران أو استنساخ عمل أكثر عمقا لكاتب كبير.. مثلاً قرأت لشاب من هؤلاء يصف آلام الشيخوخة وعذابها

صار الأمر خطيرا لأنني بحكم تخصصي أكتب للشباب دوما، ولهذا أتلقى دوما تلك الحقيبة المليئة أو هذا الملف المتخم بالكتابات ويطلبون رأيي

بعد فترة وجدت أنني لم أعد أقرأ سوى كتابات الشبان وهي محاولاتهم الأولى غالبا.. وهكذا بدأت مقاييسي عن العمل الأدبي الجيد تذوب وتتآكل ولم أعد أعرف ما الذي يميز ماركيز أو ساراماجو عن أي شاب من هؤلاء.. الكل يكتب.. والمشكلة الحقيقية تأتي عندما تكون أعمالهم غير صارخة السوء، بمعنى أنها ليست جيدة ولا سيئة.. هنا يستحيل علي أن أعرف ما هو جيد أو رديء

على سبيل إنقاذ النفس أفر من وقت لآخر إلى عوالم تشيكوف وهيمنجواي لأتذكر الأدب الجيد وكيف كان مذاقه

دعك من السؤال الأخطر: ما الذي يميزني عنهم؟.. كلنا نكتب وننصب خبر (كان) واسم (إن).. صحيح أنني أحذف نون جمع المذكر السالم عند الإضافة وهم لا يفعلون، لكن هذا لا يكفي لجعلي عبقريا

لي صديق يكتب روايات جيدة، وقد سمع عن مسابقة مهمة في الرواية.. هكذا سافر من بلدتي إلى القاهرة قاصدا المقطم - وهي رحلة تشبه رحلات أوديسيوس في الأساطير الإغريقية - كي يقدم خمس نسخ من روايته.. يحكي لي صديقي في رعب أنه وجد كما هائلاً من الروايات على مكتب السكرتيرة.. عدة أكوام وكل كومة تصل إلى السقف بلا مبالغة... و السكرتيرة المكلفة بتسلم الأعمال كانت مشغولة ولا تعيره انتباها.. لماذا؟.. لأنها كانت منهمكة في تصحيح روايتها التي ستتقدم بها لذات المسابقة

هكذا لم ينتظر صاحبنا وحمل النسخ الخمس وفر قبل أن يسمع كلمة واحدة

لحسن الحظ أن ابني لا يهتم بهذا الهراء الأدبي.. هو يؤمن أن كل شيء مهم في العالم قد تم تحويله إلى فيلم سينمائي أو لعبة على (البلاي ستيشن).. بالتالي لا داعي لهذا التكلف الذي يجعلك تسهر وتشرب الشاي الثقيل واصفًا أوجاعك

لحظة لأنه يدخل الغرفة.. ماذا تريد يا فتى؟

يقول في خجل إنه قرر أن الأدب ليس عملاً سخيفا وهو يريد أن أقرأ أول قصة له. هنا دخلت أمه الغرفة وقالت بلهجة مبطنة بالتهديد:
''طبعا يستحق أن ينشر هذا العمل له في مجلة مهمة.. لا أصدق أنك تقضي وقتك في نشر أعمال كل من تقابله ولا تنشر العمل الأول لابنك الوحيد''

نبيذ وفحم!.. كلنا نبيع النبيذ والفحم وكلنا نشتريهما.. لو احتجت أية كمية من النبيذ والفحم فأنا تحت أمرك