مشكلتي هي أنني أحتفظ بذاكرة الأفيال.. لا أنسى شيئًا على الإطلاق خاصة إذا ما كان بعيدًا. لهذا أكون شاهدا دائما على ما يطلق عليه علماء النفس (الذاكرة المزيفة). يحكي لي هذا الرجل عن التصفيق الذي استمر ساعتين بعد خطبته عام 1974 فأتذكر جيدًا أن أحدا لم يصفق.. هو غير كذاب.. فقط زيفت ذاكرته الواقعة. يحكي لي هذا عن المبلغ الذي منحه للفقراء عام 1977 فأتذكر جيدًا أنه لم يعط مليمًا لأحد. ولنفس السبب أتذكر الماضي فأجد أنه كان كريهًا موجعًا في أحيان كثيرة.
صديقي هذا مثلاً يحكي لي عن روعة الماضي طيلة الوقت.
يشرب كوبًا من الشاي فيتنهد ويقول: ليس كالشاي الذي كنا نشربه في السبعينات.. كان له مذاق ورائحة تشمها على بعد أميال.
يسمع أغنية لمطرب شعبي قديم هو (أحمد عدوية) فيتنهد ويقول: تصور أننا كنا نتهكم على هذا الصوت في الماضي.. كم هو رائع! من المستحيل أن تسمع صوتًا كهذا.
ثم يتكلم عن حبيبته وكيف كانت رقيقة عذبة في الماضي.
الخلاصة التي تصل إليها من كلامه هي أن المجتمع كان جنة ترفرف فيها الملائكة، وتغرد فيها بلابل لها صوت (عدوية)، وكانت الفتيات أجمل والعواطف أكثر حرارة وللشاي رائحة مُسكرة.. يبدو لي أنه شرب كوبين من الشاي في الماضي، فسكر ومشى في الشوارع مترنحًا حتى كاد رجال الشرطة يقبضون عليه.
ما أذكره مثلاً أنه كان في شبابه يعاني عقدًا نفسية مختلفة، وكان في خلاف دائم مع أهله، وكان مفلسًا فقيرا.. وقد تلقى جلسات علاج نفسي، وحاول الانتحار بابتلاع خمسة أقراص من الأسبيرين متظاهرًا - ذلك الأحمق - بأنه لا يعرف أنها جرعة قليلة جدا.. دعك بالطبع من أنه لم يكن يحب الشاي أصلًا.
أما عن ذوقه السماعي، فقد كان يشكو بلا انقطاع من فساد الذوق العام وأن هذين المدعوين عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش يلوثان ذوق الشباب بلا توقف.
لكنه مصر على أنني لا أفقه شيئا.. الماضي كان رائعا إلى حد لا يوصف.. كانت السعادة تغمرنا.
يبدو لي أن هذا الداء يتجاوز صديقي إلى المجتمع كله، وهذه مشكلة حقيقية لأننا نترك أشياء جميلة فعلا في حاضرنا تفلت، ونبكي بلا توقف على ماض لن يعود.. ثم نفطن إلى أنَّ حاضرنا صار ماضيا فنعود للصراخ والبكاء.. إن هواية البكاء على الأطلال ليست مقصورة على أجدادنا فقط.. كلنا نبكي على الأطلال، لكننا لا ننعم لحظة واحدة بما نعيش فيه من بيوت.. لابد أن تتهدم أولا لندرك أنها رائعة.
كنت أتكلم وأنا أشغل في كاسيت السيارة أغنية لشعبان عبد الرحيم.. وقلت لصاحبي:
''ليس هذا هو المثل الأفضل لما أقول، لكن لا تنكر أن صوته جميل.. لو وجد من يوظف هذا الصوت بشكل صحيح لصار ظاهرة في الغناء الشعبي''.
لم يقتنع.
جلسنا في كافتيريا فراح يتشمم الهواء، وقال في ضيق:
"حتى الهواء لم يعد كهواء الماضي.. الهواء كان أفضل منذ عشرين عام".
''ربما لأن أنفك كان أصغر عشرين عاما''.
انتهت الأمسية وعدنا لبيوتنا.. عند منتصف الليل اتصل بي يسألني عن اسم أغنية شعبان عبد الرحيم التي كنت أشغلها في السيارة، ثم قال:
''هذه الليلة كانت جميلة فعلا.. تذكرني بليالي شبابي.. تصبح على خير''.
عندما وضعت سماعة الهاتف فكرت لحظة في معنى هذا اللغز.. ثم فطنت إلى أن أغنية شعبان عبد الرحيم صارت ماضيا! لقد سمعها منذ ساعتين! كذلك تلك الجلسة صارت من جلسات الماضي!
الماضي كان جميلاً لكني مصر على أنه أسوأ من الحاضر بكثير.. ماذا عن الحرب؟ ماذا عن طوابير الخبز ودجاج الجمعية؟ ماذا عن صعوبة الاتصالات؟ ماذا عن وجبة الطعام التي يجب أن تأكلها في يوم واحد لأنه لا توجد ثلاجة؟ ماذا عن الزواج من امرأة لم ترها في حياتك لكنك رأيت أباها؟ ماذا عن وجود قناة واحدة أبيض وأسود في التلفزيون؟ ماذا عن العمل من دون كمبيوتر؟ هل تتكلم عن القيم؟ ماذا عن أغاني سيد درويش مثل ''شفتي بتاكلني أنا في عرضك''؟ هل تجدها راقية تمت للزمن الجميل حقاً؟ والأمان؟ ماذا عن (خُط الصعيد) الذي قتل ستين رجلاً قبل ان تقتله الشرطة؟
فقط للماضي ميزة واحدة هي أنه صار ماضيًا لهذا نشعر بالحنين له، بينما الحاضر موجود في كل مكان وفي كل لحظة لهذا نزهده.
لقد صارت الفقرة الأولى من هذا المقال ماضيًا جميلاً، لهذا أشعر بالحنين لذلك الزمن الذي كنت أكتب فيه فقرات جيدة كهذه!