المؤتمر الطبي.. وأنا جالس في الظلام أحاول أن أركز تفكيري فيما يُقال، لكن عقلي حصان جامح يأبي أن يبقي في موضع واحد، بل ينطلق في كل صوب ويبعثر الغبار بحوافره.. فقط يسمع هذه الكلمات تتناثر من المحاضر
ـ «منذ بدأ العام 2010 ومصر تحقق أعلي معدلات إنفلونزا الطيور في العالم.. لقد تفوقت علي جنوب شرق آسيا نفسه»ـ
منذ متي ونحن لا نسمع إلا هذا النوع من الإنجازات؟.. أعلي معدلات لإنفلونزا الطيور في العالم.. أعلي نسبة للفيروس سي.. معدلات مذهلة في سرطان الكبد والفشل الكلوي.. لقد صارت مصر قبلة علمية لعلماء العالم الذين يريدون الفهم، وهكذا لنا الحق أن نفخر كالعادة
أشرد بذهني من جديد إلي موضوع هذا المقال.. بدأت هذه السلسلة من المقالات - لو كنت تذكر - وقد أثارت شجوني كلمات تعبر عن الفرحة المجنونة لشاب استطاع أن يحصل علي فيزا الإقامة في أستراليا، وكانت كلماته الحارة توشك علي أن يسيل منها الدمع وهو يصف نشوة الفرار من مصر. مصر التي يصفها بـ «جهنم الله في الأرض اللي بنتعذب فيها من يوم ما اتولدنا علي ذنب لم نقترفه»، وهو كلام كان يبدو صادمًا منذ عشرين عامًا لكنني لست مندهشًا منه اليوم. هل تمكن محمد من السفر، أم أنه تعجل الإعلان عن نصره وظهر له عائق إداري من مكان ما؟.. المصري يخاف بطبعه هذه الأمور كثيرًا ويضعها تحت عنوان (المقاطعة).. المقاطعة بمعناها الشعبي معناها أن الكلام عن الشيء قبل حدوثه وسيلة عبقرية لمنع حدوثه
الحقيقة هي أن مصر تمر بفترة من فترات إرهاقها الشديد، وأعتقد أن كتب التاريخ سوف تحكي يومًا عن هذه الأيام. لست قلقًا علي مصر التاريخية.. مصر نفسها سوف تسترد عافيتها وتنهض من تحت الرماد والركام والمجاري كالعادة؛ لأن هذا البلد يحمل لغزًا محيرًا أبديًا، وهو أعظم وأكبر من أن يتم سحقه أو إغراقه. لكن المشكلة هي أنني لن أري هذا علي الأرجح. يعزيني علي الأقل أنني عشت أحداثًا عظيمة وحضرت حرب أكتوبر وأنا بكامل وعيي، وعاصرت ثلاثة رؤساء جمهورية، أما بالنسبة للأخ محمد فهو لم ير سوي نفق طويل مظلم.. ينظر للخلف فيري الحزب الوطني.. ينظر للأمام فيري الحزب الوطني ولجنة السياسات. من يلومه علي ما كتبه؟. المشكلة هي أن من يحكمون في مأزق آخر ولا يمكن أن يقبلوا مقولة «إن لم تستطع أداء المهمة فلتتركها لسواك"، لأنهم ببساطة لن يتركوها لسواهم.. هم لا يستطيعون إلا أن يحكموا للأبد.. تداول السلطة صار خطرًا علي مصالح الكثيرين، وهذا يذكرك بالمثل الصيني عن صعوبة الركوب علي ظهر النمر، لكن الأصعب هو النزول
أسمع صوت المحاضر يعيدني لهذا العالم
ـ «وفيات إنفلونزا الطيور تمثل 30% من الحالات بينما في العالم كله تمثل 60%. من لا يفهمون يعتقدون أن هذه علامة طيبة، بينما الحقيقة أن هذا يعني تحور الفيروس في مصر.. السبب هو التعامل الأخرق الفاسد مع المشكلة. الحكومة لم ترد إعدام الطيور وتعويض أصحاب المزارع؛ لذا قامت بتلقيح الطيور.. النتيجة هي أن الطيور صارت تعيش أكثر وتفرز الوباء في فضلاتها.. الفيروس لم يعد يفتك بالبط وهكذا صار أكثر كفاءة في الانتشار، وصار متوطنًا في مصر»ـ
من جديد.. الحكومة.. المصالح.. الفساد.. من أين تبدأ؟
الفساد الذي صار كنسيج العناكب يلتف حول كل شيء.. لا يمكنك اليوم أن تتحدث عن الرأس أو الجسد.. العنكبوت يغلف كل شيء.. وبالنسبة لشريحة كبيرة من الشعب صار الخيار إما أن تفسد أو تتسول. ثقافة التسول تجتاح المجتمع.. الكناس الذي يكنس الشوارع يفضل أن يقف جوار مكنسته منتظرًا الحسنة، ولا يكف عن ترداد: كل سنة وإنتو طيبين. هل أنت قادر علي أن تلومه حقًا؟.. المفاجأة هي أن لديه بيتًا وأطفالاً يأكلون ويكتسون ويمرضون وربما يتعلمون كذلك. دعك من المخلوقات التي كانت رجالاً التي تظهر دائمًا في نقاط استراتيجية.. عند المصرف.. عند الجزار.. في إشارات المرور.. يذكرونك دومًا بأن عليك أن تعطيهم حتي لا يُخرب بيتك وتتسمم باللحم وتفلس وتحترق سيارتك. دعك طبعًا من أكثر صور التسول إيلامًا: رجل الشرطة البسيط الذي يمد يده لنافذة السيارة
المحاضر في الظلام يواصل الكلام المباح
ـ «المزارع غير القانونية تبيع الطيور الموشكة علي الموت بجنيه للرأس إلي المزارع القانونية.. عندما تنفق الطيور تأخذ هذه المزارع خمسة جنيهات عن الرأس»ـ
بعد المؤتمر أقود سيارتي في شوارع طنطا التعسة.. لأسباب واضحة لا يظهر التليفزيون أي مكان في طنطا إلا المنطقة المحيطة بالمحافظة وبيت مدير الأمن، حيث يبدو المشهد كأنه قطعة من أوروبا، وحيث تلقي الحدائق أفضل عناية، ويتم استبدال بلاط الرصيف مرة كل ثلاثة أشهر. ولنفس الأسباب يزور كل الوزراء مجمع الكليات من البوابة الأنيقة الفاخرة المطلة علي الطريق السريع، ليشعر بأنه في جامعة هارفارد، ولا يري برك المجاري والحفر التي يمكن أن تحطم السيارة إلي نصفين. أن تمشي فوق عشرين قالب طوب ولا تقع في المجاري لتصل لمكان عملك هو عمل عبقري، لكن لماذا أشكو وهذا حال المصريين جميعًا؟.. إنها طريقة حياة
الشارع مسدود تمامًا. لو مضيت نحو الاستاد لوجدت السيارات تقوم بعمل (تخميسات) مرعبة تهدد حياة المارة والراكبين كلهم لسبب بسيط: هذه زفة عروس. نحن سعداء فالويل لكم. تمر أمام قاعة المناسبات فتجد الشارع مغلقًا.. نحن مكلومون فالويل لكم.. سواء كنا سعداء أو مكلومين فعليك أن تتحمل وتصبر ومن حقنا الكامل أن نعطل المرور ونعرض حياة الناس للخطر. لن يعترض أحد من رجال الشرطة الذين يقفون علي بعد خطوات، فاللواء (فلان) والعميد (علان) من أسرتنا
هذه مشكلة أخرى.. فليذهب الجميع إلي الجحيم ما عداي، ولنبع المستقبل مقابل الحاضر. لقد تغير الشعب المصري كثيرًا جدًا.. وبشكل ما استحق الحكومة التي تحكمه
الشارع مسدود بهؤلاء الذين يصممون علي أن يكونوا سعداء.. يجب أن أنتظر.. أخرج لفافة تبغ وعلبة الثقاب التي رسم عليها مقصان.. أكتشف أنه لا يوجد عود ثقاب واحد مغطي بالمادة الملتهبة بما يكفي للاشتعال. الشركة المدعوة (الشركة المصرية الحديثة للكبريت) تريد الكسب ولا تريد أن تتكلف مليمًا؛ لذا اكتفت بتلوين رأس كل عود ثقاب باللون الأحمر. دعك من أن ثمن (القاروصة) صار جنيهين، مما يجعل مصر هي البلد الوحيد الذي تزداد فيه السلعة رداءة كلما ارتفع ثمنها.. هل تلومهم؟.. هل تملأ الدنيا صراخًا من أجل علبة ثقاب؟.. بالطبع لا.. فلتصمت ولتنتظر الفرج
من ذلك الشارع الجانبي تسمع الصرخات.. تلك السيدة الوقور تصرخ لأن شابًا في سيارة مر جوارها وانتزع السلسلة الذهبية من عنقها وانطلق لا يلوي علي شيء. رجل الشرطة يقول في انبهار واستمتاع إن هذه هي أول مرة يستخدم فيها أحدهم سيارة لسرقة السلاسل وليس دراجة بخارية.. لابد أنه يريد أن (يشم) وبالتأكيد السيارة مستأجرة
اصبر يا أخي.. اصبر.. أنت في السابعة والأربعين، وبإذن الله ومع ارتفاع ضغط الدم والإفراط في التدخين لن تعيش حتي الخمسين.. فلتترك لهم كل شيء.. البعض يفر إلي أستراليا مثل محمد، والبعض يفر إلي أعلي أو إلي أسفل مثلك. يعلم الله أنك حاولت لكنهم كانوا أقوى منك بكثير.. ربما كان لديك بعض الأمل لو لم يتغير الناس كذلك.. الناس الذين يستهترون بحياة الآخرين ويسدون الطريق السريع لعمل (التخميسة) لأنهم مسرورون، ويستأجرون سيارة لخطف السلاسل من أعناق النساء من أجل (الشم)، ويغشون أي شيء حتي لو كان عود ثقاب، يستحقون بالتأكيد لجنة السياسات
وللحديث بقية