كنت وزوجتي نشاهد (شعبان عبد الرحيم) في حلقة من برنامج (من يربح المليون).. وكان المذيع يسأله أسئلة تافهة لكن المطرب الشعبي لا يجيب عن شيء منها، وهكذا بدأ المذيع يلمح له بالأجوبة ويسمح له بالربح .. كل هذا مع ضحكات المشاهدين واسطوانات (شعبان) المعروفة عن ثيابه التي يشتريها من وكالة البلح ورغبته في العودة إلى المكوة لأن الطرب لم يعد كما كان ..الخ .. في النهاية استطاع أن يحصل على مائة وخمسين ألفًا من الجنيهات في بضع دقائق.. قالت زوجتي إن هذا الرجل محدود الذكاء بشكل غير مسبوق، لكن رأيي كان مختلفًا .. لقد خدع المشاهدين والمذيع الوسيم وسخر منهم بمنتهى الخبث ..نحن خرجنا بإحساس زائف بالتفوق والذكاء وهو خرج بمائة وخمسين ألفًا فمن الأذكى ؟..ومن الغبي الحقيقي هنا ؟
الأمر كله يذكرني بقصة المتسول الذي كان السياح يعرضون عليه أن يختار بين عشرة دولارات وربع جنيه، فكان يختار الربع في كل مرة .. إلى أن لامه أحدهم على غبائه الشديد .. كيف تختار يا أبله ربع جنيه وتترك عشرة دولارات ؟.. كانت إجابة المتسول المفحمة هي: لو اخترت عشرة الدولارات لكف السياح عن المجيء لرؤية بلاهتي، ولقطعت مصدر رزقي !
ثمة قصة مماثلة عن التجار المصريين أيام الحملة الفرنسية، وكيف كانوا يرفضون العملات الذهبية لكنهم يقبلون أزرار الجنود الفرنسيين النحاسية ثمنًا لما يبيعونه لهم .. وقد تسلى الفرنسيون بهؤلاء الحمقى كثيرًا.. ثم اتضح فيما بعد أن المصريين لم يريدوا الاحتفاظ بعملات ذهبية فرنسية لأن الفرنسيين سيرحلون حتمًا، ولسوف تعود جيوش مراد بك لتعدم من تجد معه هذه العملات بتهمة الخيانة.. بينما الأزرار النحاسية تعني أن المصري قتل جنديًا فرنسيًا أو سرقه .. دعك من أن سعرها سيرتفع مع الوقت !
لماذا أذكر هذه الأمثلة على (النصاحة المصرية) المعهودة ؟.. السبب هو أنني في إحدى الصحف الحزبية رأيت صورة لواحدة من مظاهرات حركة (لسه) - كما أسميها - المناهضة لحركة (كفاية)، وكانت تظهر فلاحين من قرية ما يحملان لافتة تحمل تأييدًا لرئيس الجمهورية الحالي – وهذا من حقهما – لكنها كذلك تحمل عبارة (لا لفار الجمالية .. اللي عاوز يبقى رئيس جمهورية).. لا أعرف شيئًا عن الذي تهاجمه هذه اللافتة، وليس موضوعي هنا تأييد حركة (لسة) أم حركة (كفاية) .. إنما ما أثار دهشتي ودفعني للتفكير هي تلك الطريقة الفظة في مهاجمة الخصم .. ضرب تحت الحزام لا يتورع عن الإهانة والتشهير.. وهذا يذكرني بصفحة كاملة نشرت في جريدة الأخبار في عهد (موسى صبري – السادات)، والصفحة مليئة بخطابات القراء الذين يهاجمون الأستاذ (خالد محيي الدين) بأقذع القول، وبعبارات أثارت خجلي برغم أنني كنت في المدرسة الإعدادية وقتها .. كأن كل الناس في مصر حلوا مشاكلهم ولم يعد لهم من هم إلا التعبير عن مقتهم الملحمي الأسطوري لـ (خالد محيي الدين)، وترى التوقيع تحت كل خطاب فتجد أسماء يستحيل التيقن من صحتها على غرار (محمد أمين – القاهرة).. الخ ..
طبعًا كان التلفيق واضحًا بشكل فاضح في تلك الصفحة، لكن تلك اللافتة التي أتحدث عنها صادقة بلا شك .. أعني أن أهل القرية هم الذين كتبوها وليس (موسى صبري)..
وتنظر لوجه الرجلين الظاهرين في الصورة فترى العنف والقوة والصفاقة .. واضح أنهما فلاحان وأنهما من الموسرين، وأنهما منغمسان حتى الآذان في هذا الشيء الغامض الذي يجمعون من ورائه الملايين والمدعو (محليات). هناك أذونات أسمنت في الموضوع وتقسيم أراض وأشياء من هذه التي لا أفهمها بسبب غبائي الذي اقترب من حدود التخلف العقلي..
الصفاقة على وجه الرجلين مألوفة ورأيتها ألف مرة من قبل .. إنه تنمر المصري عندما يعرف أنك لن تفيده ولن تضره.. وجه منادي السيارات الذي لم يرق له ما دفعته .. وجه الكمساري الذي أدرك أنك لن تتنازل له عن الباقي ..وجه النادل الذي أدرك أنك لن تدفع بقشيشًا ..
منذ أعوام طوال كانت هناك انتخابات صاخبة بالغة الأهمية في مجلس الشعب .. وكنت أجلس في إحدى الوحدات الصحية مع كاتب الوحدة العجوز الطيب الذي يذكرك بصور (بابا نويل).. قلت له إن التغيرات القادمة مهمة جدًا، فقال في حكمة: مش حيفوز إلا الحكومة يا دكتور .. يعني أنا يبقى القلم في إيدي وأكتب نفسي تعيس؟.. لا والله .. لازم اكتب نفسي سعيد ...
تأملت عبارته طويلاً وفكرت .. هذه هي الحكمة التي اختزنها المصري عبر قرون وقطرها وركزها .. هذا الرجل لم يقرأ كتابًا واحدًا في حياته لكنه ارتشف الحكمة من الأرض ذاتها .. وأمامه أبدو أنا الطبيب المثقف -كما أفترض- ساذجًا..
لقد اكتسب المصري حساسية خاصة به تجعله يعرف اتجاه الريح ويعرف أين ستكون مصلحته وأين ينتظر الخطر .. تلك الغريزة التي يفقدها المثقفون بسهولة تامة.. يقولون إن قبائل البوشمان تملك حاسة التنبؤ وحاسة قراءة الأفكار، بينما الحضارة تنسف هاتين الحاستين نسفًا .. ويبدو أن القياس هنا صحيح أيضًا .. وأنا لا أتكلم عن الذكاء .. أتكلم عن غريزة فطرية تشعر المصري العادي بما ستتجه إليه الأمور .. وهي لا تخطئ أبدًا ..
أهالي تلك القرية عرفوا بفطرتهم اتجاه الريح .. فأر الجمالية هذا لن يصير رئيس جمهورية أبدًا وإلا بدأ عهده بخراب بيوتهم .. لهذا خرجوا يؤيدون الجواد الرابح ويسبون الجواد الخاسر قبل أن تبدأ المباراة ..كاتب الوحدة العجوز عرف الحصان الرابح ببساطة بالغة ..
لماذا يرسم الناس في الأحياء الشعبية صورة مبارك على شرفات بيوتهم ويرسمون على الجانب الآخر صورة (جمال مبارك) ؟..لقد فهمها الوجدان الشعبي (وهي طايرة) وهو ليس على استعداد لأن يقف في الجانب الخاسر أبدا
أمريكا تطالب بالديمقراطية .. أبلة (كوندي) تضغط وتهدد .. المثقفون يتحمسون ويلوحون باللافتات ويتكلمون عن رياح التغيير القادمة، لكن المصري العادي أذكى من هذا كله .. يعرف أنها (هوجة) وتزول، وأن أمريكا لا يهمها من الديمقراطية إلا ما تمنحه من وسائل ضغط تبدو مشروعة .. أمريكا يهمها البترول وإسرائيل فقط، وبعد هذا فلتذهب المنطقة كلها للجحيم .. سوف تنتهي الهوجة وتعود الأمور لما كانت عليه بالضبط .. ووقتها تأتي لحظة الحساب ...
هذه هي موهبة المصري الحقيقية عبر القرون .. لا يمكن خداعه بسهولة .. فإذا تظاهر بأنه صدق الخدعة فلأن مصلحته تشير عليه بذلك.. وهو أذكى من أن يمد يده إلى عشرة الدولارات فيقطع عيشه للأبد ..أو يتقاضى الثمن عملة ذهبية فيقطع (مراد بك) رأسه .. أو يظهر ذكاءه فلا يضحك مشاهدو البرنامج على (شعبولا) بما يكفي