من الخصائص المهمة في الامبراطورية الأمريكية كونها تقدم – كما يقول الأستاذ هيكل – نمطًا معيشيًا وثقافيًا بالغ الجاذبية. إنها الامبراطورية الأولى في التاريخ التي تستعمل هذا النوع من السلاح. وفي الماضي كان من السهل أن تمقت الامبراطورية الرومانية بكل رموزها؛ فلم تكن كتابات ماركوس أوريليوس أو خطب بلليني الأكبر تتسرب إلى دارك، أما اليوم فأنت تشتم الولايات المتحدة ثم تقضي الليل كله مع فيلم أمريكي شائق. يذكر أبناء جيلي أيام الحرب الباردة حينما كان الماركسيون يعدونك بجنة البروليتاريا التي ستتحقق بعد الكثير من الدم والعرق والدموع، بينما كان الأمريكيون يقدمون لك بالفعل جنتهم الصناعية ذات اللون والطعم والرائحة، حيث تسبح الحسناوات الشقراوات في بحار البيبسي كولا بينما يرقص ميكي ماوس ويحلق سوبرمان في الجو. إنه (العالم الحر)... تلك اللفظة الأمريكية الاستعمارية التي سادت لتصف كل ما ينضوي تحت جناح الولايات المتحدة خارج الستار الحديدي، أما ما وراء الستار الحديدي فحفنة من الجنرالات الساديين المصابين بالشذوذ الجنسي والذين يتكلمون الإنجليزية (المكسرة)، ومواطنين لا يرغبون في شيء إلا الفرار إلى العالم الحر.
منذ أسابيع قدمت قناة الجزيرة فيلمًا وثائقيًا بريطانيًا عن احتلال العراق، وكان المراسل البريطاني يختبئ مع المارينز خلف دبابة بينما طلقات المقاومة تنهمر عليهم.. هنا قال أحد رجال المارينز دعابة ليزيل التوتر، لكنها تستدعي وقفة عميقة: "تصور أننا لم نقصف قط أية مدينة فيها (ماكدونالد) ؟!". وقد اندهش المراسل البريطاني لهذه المعلومة التي ثبت أنها حقيقية. إن ماكدونالد رمز استعماري قوي يعني أن هذه الدولة غير مارقة، وله ذات ثقل القنصلية البريطانية في الماضي.. بل إن ظهوره في بلد ما يعطيها نوعًا من صكوك الأمان ضد الغزو. ولهذا لا نندهش كثيرًا عندما نعرف أن الصين اعتبرت البطة دونالد عميلة للمخابرات المركزية ومنعت دخولها البلاد لفترة طويلة إبان الثورة الثقافية.
إن الثقافة الأمريكية – على مستوى القراءة أو المشاهدة أو الطعام – هي أمضى سلاح في ترسانة الحرب الأمريكية، والولايات المتحدة قادرة بالفعل على فرض أولوياتها الثقافية .. إنها الدولة الوحيدة التي تشتمها وأنت تستمتع بأفلامها وتتلذذ بمشروبها الشهير.
أنت تشعر بأن من يرتادون محلات الوجبات الجاهزة الأمريكية لا يفعلون ذلك لأنهم يحبونها، بل لما يحظون به من (ممارسة للأمركة) على أرض وطنهم، وهم يدفعون ثمن هذه الممارسة غاليًا ..إن هذه المحلات لا تبيع طعامًا لكنها تبيع جوًا وطقوسًا وهي تعرف هذا .. يلبس الشاب (الكاجوال وير) مع كاسكيت البيزبول المقلوب على رأسه، ويحمل شطيرة الهامبورجر وفي اليد الأخرى كوب البيبسي يبرز منه الشفاط فيشعر بأنه واحد من هؤلاء السادة في مانهاتن، ويا حبذا لو استعمل لفظة Shit مع كل عبارة .. باختصار هم يرتادون هذه المحلات لكي يكونوا من القوم الذين يرتادون هذه المحلات .. لماذا صار الشباب يصافحون بعضهم على طريقة High five أي تلك المصافحات العالية التي يستعملها لاعبو السلة الأمريكيون ؟... لماذا يلبس الشباب القلنسوات الصوفية على غرار الزنوج الأمريكيين مطربي (الراب) ؟
عندما أشاهد أفلام الأمريكيين وحلقاتهم الكوميدية من طراز كوميديا الموقف Sitcom أجد غريبًا جدًا أن يفهم المواطن العربي هذه المواضيع أو يتذوقها لكن هذا يحدث.. مشكلة الفتى المراهق الذي لا يستطيع مواعدة Dating أية فتاة في الصف .. مشكلة الفتاة في الذهاب إلى حفل الرقص السنوي .. مشكلة الطفل الذي لا يحقق أهدافًا في لعبة البيزبول .. ثم الدعابات السمجة: "أطرف شيء حدث لي في طريقي لهذا الحفل ..تصوروا أنني لم أجد زيتونًا للمارتيني!" فينفجر الجمهور ضحكًا ومعه يضحك (عباس) أو (حلمي) من فرط طرافة الموقف.. لا زيتون للمارتيني؟... يا للسخرية!. ثم الكلام عن "بطل الكلية الذي يزن مائة رطل وطوله ستة أقدام".. فتحاول أنت جاهدًا فهم ما يمثله هذا بالمتر والكيلوجرام .. ثم يظهر مقدم حفل الأوسكار الذي مهمته هي التظرف – ستيف مارتن غالبًا – ليقول لنا: "لقد شعرت كأنني في رون هوارد شو !" .. هنا ينفجر الجمهور ضحكًا ويوشك على الاختناق .. أنت مطالب بأن تعرف ما تعنيه هذه الدعابة أو تختنق ضحكًا مع الجمهور..
حتى على مستوى مجلات الأطفال، لماذا لا يتزوج دونالد صديقته ديزي أبدًا ؟..إنه يحاول الفوز بحبها ومن جديد ندخل في نطاق (المواعدة).. لكن ولا كلمة عن الزواج .. أين الآباء والأمهات في هذه القصص ؟..
ويلاحظ من يتابع الأفلام الأمريكية الحديثة أن هناك نغمة تقديس واضحة لثلاثة أنماط من البشر: الزنجي واليهودي والشاذ جنسيًا.. راجع فيلم (أفضل ما يكون) حيث تجد ثلاثة الأنماط معًا. يسهل قبول العنصر الأول بشرط ألا يتحول إلى عنصرية مضادة، وإن كان العارفون ببواطن الأمور يؤكدون أنها مجرد قشرة سطحية تخفي عطن العنصرية .. يسهل قبول العنصر الثاني بشرط ألا يتحول إلى صهيونية أو تعصب أعمى .. أما العنصر الثالث فابتلاعه عسير جدًا.. لكننا نتعلم كيف نبتلعه بالتدريج، وعلى طريقة راسبوتين في ابتلاع جرعات متزايدة من السم يوميًا..
إن الثقافة الأمريكية قوية إلى درجة أنها تخدر المواطن الأمريكي نفسه .. هذا المواطن الذي يمسك بعلبة البيرة الباردة ويلبس الكاسكيت بالمقلوب ويصلح هوائي التلفزيون لمشاهدة مباراة كرة القدم .. كرة القدم التي يلعبها على عكس العالم كله. وهو يؤمن فعلاً بأن أمريكا تقود العالم الحر وأن ديموقراطيتها هي النموذج الأعلى للشعوب الأخرى.. هذا المواطن التعس الذي آمن بخطر الشيوعية، ثم بعد سنوات راح يتساءل: كيف قادنا ماكارثي إلى هذا كله ؟ ... هل كنا مجانين ؟.. ثم نسى الأمر برمته وحارب في فيتنام وبعدها بسنوات راح يتساءل كيف وصلنا لهذا ؟.. كيف كنا بهذا الحمق ؟.. ثم سرعان ما نسى وأرسل ابنه إلى العراق .. ولسوف يتذكر الأمر بعد عام أو عامين ليتساءل: كيف تركنا بوش يقودنا إلى هذا الجحيم ؟..
بعد خسارة كيري أمام بوش قرأت رأيًا لأحد المواطنين الأمريكيين يقول: لقد كان كيري رائعًا في المناظرات .. لكننا نؤمن أن المناظرات لا تدل على شيء لهذا كان لابد أن يخسر !..
تأمل معي منطق الأطفال هذا: من يفز في المناظرة لابد أن يخسر الانتخابات لأن المناظرات لا تدل على شيء!.. إذن هل كان على كيري أن يخسر المناظرات ؟.. وما جدواها إذن ...؟..
كائن مغرور ساذج مخدوع ..هذا هو المواطن الأمريكي .. المواطن الأمريكي المتوسط الذي ليس خبيرًا في مؤسسة (راند) وليس طبيبًا في (مايو كلينيك).. لكنه صار النمط الثقافي الأكثر جاذبية على ظهر هذا الكوكب، وصار على الشباب أن يفرح لما يفرحه ، و يقلق من أجل ما يقلقه حتى لو كان عدم وجود زيتون لشراب المارتيني.. إنها العولمة التي وصفها د. (جلال أمين) بأنها تسري في اتجاه واحد: منهم إلينا .. بينما المفترض أن تسري في الاتجاهين .. لكن الأمريكي يؤمن أنه ليس لدى الشعوب الأخرى ما تقدمه له إلا فطيرة إيطالية جديدة أو وجبة مكسيكية أو أسلوبًا صينيًا جديدًا في التأمل..
لقد تغلغلت الثقافة الأمريكية في خلايانا وخلايا شبابنا بلا شك .. والمشكلة أن المقابل الفكري المتمثل في الاتحاد السوفييتي لم يعد موجودًا.. كانت هناك سماء وأرض، وكان هناك أبيض وأسود، وكان هناك ماء ونار .. اليوم لم يعد لدينا إلا الأرض والأسود والنار.. فلابد أن الناس في روسيا الآن يحاولون تحويل الرطل والقدم إلى الكيلوجرام والمتر، أو يبحثون عن زيتون لشراب المارتيني !