ـ«صندوق مفعم بالشيكولاتة».. مع الاعتذار للخواجة فورست جام الذى ذكر هذا التعبير الشهير فى فيلمه
هذا هو ما تشعر به وأنت عائد من القاهرة، حاملا معك كتابا جديدا لهيكل وكتابا جديدا للدكتور جلال أمين. الأول هو كتاب «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان»، والثانى هو كتاب «ماذا حدث للثورة المصرية؟». بعد فترة لا بأس بها من الجوع الفكرى وجدت هذه الوجبة الدسمة، ورغم أنك غششت وتسللت للمطبخ كثيرا قبل موعد الغداء، وفى كل مرة كنت تخرج بفم محشو بالطعام وابتسامة خبيثة.. معظم هذه المقالات نشر فى الصحف وأكثره موجود على شبكة الإنترنت، وقرأته أنت من قبل، لكنك فى هذه المرة سوف تجلس وتلتهم بهدوء وجبة كاملة صحية دسمة كما يفعل البنى آدمين
الوجبة الأولى هى كتاب هيكل «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان». كتاب مهم وكل شىء ينذر بأنه سيكون «خريف الغضب» الخاص بمبارك. كان مما يعذبنى أننى غالبا سأموت قبل مبارك -فهو من أسرة معمرة- ولن أقرأ ذلك الكتاب الرهيب الذى سيكتب عن عهده.. اليوم يبدو أننى سعيد الحظ
فى البيت ومع كوب من الشاى وعلى ضوء الأباجورة الخافت بدأت أدرك أن الأمر ليس واعدا لهذا الحد. أولا أنت قرأت كتاب هيكل كله بالكامل فى الصحف. ليست هناك فصول خفية لم ترها
ثانيا الكتاب قصير جدا.. مع هيكل أنت تعرف أن 300 صفحة هى المقدمة قبل أن تسخن الأحداث وتلتهب.. أو هى «أفان تيتر» الذى يسبق ظهور العناوين فى السينما، لكنها هنا هى الكتاب كله! ثالثا: هيكل يؤكد أكثر من مرة أن مبارك غامض ولا أحد يعرف عنه الكثير، وأن صحفيا عالميا جاء إلى مصر وظل سبعة أشهر يجمع البيانات ثم أعلن فشله عن معرفة من هو مبارك حقا. ويسترشد بما قالته «واشنطن بوست»: «إن من يظنون أنهم يعرفون الرجل هم فى الواقع لا يعرفون عنه شيئا»ـ
هذا نوع من الاعتذار عن حقيقة سنعرفها بعد قليل، هى أن هيكل نفسه لا يعرف مبارك تقريبا، وهذا شىء مقبول، لكن لماذا يتطوع بكتابة كتاب عنه إذن؟
يحكى العظيم أحمد بهاء الدين أنه اضطر فى مرحلة مبكرة جدا من حرب أكتوبر إلى كتابة كتاب اسمه «وتحطمت الأسطورة عند الظهر»، دون أن تكون عنده معلومات ولا وثائق كافية، بسبب ضغط الناشرين عليه، لأن كتاب «وتحطمت الطائرات عند الفجر» الذى كتبه الجاسوس الإسرائيلى باروخ نادل، كان معروضا عند باعة الصحف، وكان هدف الناشرين وطنيا محضا وقتها: رد الإهانة بألعن منها.. يبدو أن الأمر يتكرر هنا.. فالحقيقة هى أن هيكل لم تكن عنده مادة كافية لعمل كتاب، وأعتقد أنه تعرض لضغط هائل كى يخرج هذا العمل
هناك قاعدة جميلة وضعها هيكل فى كتاب «حرب الخليج» هى أنه عندما يطلب رئيس الدولة لقاء السفير، فالمهم هنا ما قاله رئيس الدولة، بينما عندما يطلب السفير لقاء رئيس الدولة، فالمهم ما قاله السفير. هذا خطأ يقع فيه الناس كثيرا، عندما تقابل فلانا فيقول لك: قلت له أنا مش حتنازل عن حقى. وقلت له إبراهيم شاهد على الفلوس اللى.. إلخ. بينما أنت تريد معرفة ما قاله فلان
هنا يخرق هيكل القاعدة التى وضعها هو نفسه، وهكذا يقابله مبارك فيقول هيكل: قلت له كذا كذا.. وشرحت له كذا.. إلخ. بينما القارئ فعلا يحترق فضولا ليعرف ما قاله مبارك. هذا إذن كتاب عما قاله هيكل لمبارك
الكتاب ملىء بالتلميحات، لكنه لا يوجه اتهامات صريحة أبدا. مثلا التلميح إلى أن مبارك له دور مهم فى حوادث جزيرة آبا «تمرد المهدية على النميرى»، واغتيال الهادى المهدى بسلة مانجو ملغمة. هنا تلميح لا يتضخم فيصير اتهاما أبدا. ولربما كان مشرفا على العملية، ولربما كان دوره مجرد تخويف المتمردين بالطيران المصرى. لا نعرف يقينا. هناك كذلك كلام كثير عن دوره فى نادى سافارى الشهير مع الكونت دى ميرانش مدير المخابرات الخارجية الفرنسية. لا نعرف من هذا الدور بالضبط سوى أنه كان خليفة لأشرف مروان. ونفهم كذلك أن له دورا ما فى صفقة الطائرات الميراج التى عقدتها فرنسا مع ليبيا عام 1971. لكن ميرانش يفضل الصمت. هذا الصمت ملىء بالاتهام طبعا
يلجأ هيكل كذلك إلى حيلة معينة فى الكتابة، وهى حيلة يصعب الإمساك بها.. كل ما يقوله مبارك يُقال بالعامية بينما كلام هيكل يقال بالفصحى، فمثلا يقول مبارك: «ياه.. إنتو جامدين قوى».. أو «الصحفيين دول عالم لبط وسيبهم يغلطوا»، أو «مقالك بينتهى دون أن نرسى على بر». بينما هيكل يتكلم بالفصحى طيلة الوقت وبكلام متزن جدا. ويقول لمبارك فى حزم: «سيادة الرئيس.. لا تكرر هذا الكلام أمام أحد ولا حتى أمام نفسك». النتيجة هى أنك تكتشف أن مبارك سوقى جدا وجاهل جدا، وهذا شىء نعرفه طبعا، لكن هل هيكل لا يستعمل العامية أبدا؟ دعك من هذه المقولة الرائعة التى قالها مبارك لخالد عبد الناصر، وتصلح أغنية لنانسى عجرم: «شوف يا بنى.. تبسبس آه.. تهلس آه… تسيّس لا»ـ
على فكرة مبارك لا ينادى هيكل إلا بلقب محمد بيه طيلة الكتاب.. هل هو مهذب لهذا الحد فعلا؟ وفى فصل كامل يعطى هيكل مبارك درسا عن اختيار السيجار الجيد بدلا من السيجار الردىء الذى كان يدخنه، وهنا يخبره مبارك أنهم كانوا فى الاتحاد السوفيتى يخفون الورقة أم 100 دولار تحت الجورب مغلفة بورق تواليت، ثم يغيرونها فى السوق السوداء.. كل دولار بـ21 روبل. «الواد بتاع المكتب العسكرى كان جِنّ». ومبارك يدخن السيجار الذى رشه عليه هيكل ويقول: «يا أخى عاوزين نتعلم العز». معلومات ممتعة فعلا لكنها ليست ما نتوقعه عندما يكتب هيكل عن مبارك. هذه أقرب لجلسة نميمة
أما عندما يقترب هيكل من مواقع الألغام فهو يبتعد فى هدوء عنها، لأنه لا يملك وثائق كافية. مثلا يقابل عبد السلام جلود ويتكلمان عن صفقة الميراج الشهيرة.. هنا يقول: «لا أستطيع أن أنقل ما قيل لأنه ليس لدى طرف ثان يؤكده»! وعندما يحكى عن لقائه بحسين سالم فى جنيف فإنه يتحفظ كثيرا فى نقل ما قيل، وعن حسين سالم بعد الثورة يقول إنه عرف الكثير من رشيد محمد رشيد، لكن هذا الأخير طلب أن يبقيه بعيدا لأن عنده من المشكلات ما يكفيه، ولم يذكر روايته عن الأيام الأخيرة لنظام مبارك فى مصر. «وللأمانة أنا لم أستأذن الرجل فى النشر، فلم يكن فى تقديرى حين قابلته أن أكتب هذه الصفحات»!ـ
إذن لماذا تصدر كتابا الآن يا أستاذ أستاذى؟ لماذا لا يكون كتابا ممتعا مكتملا موثقا مثل «خريف الغضب»؟
فى الأسبوع القادم نتكلم عن كتاب د.جلال أمين، وهو يختلف عن هذا الكتاب. بالتأكيد يربح د.جلال هذه المرة
هذا هو ما تشعر به وأنت عائد من القاهرة، حاملا معك كتابا جديدا لهيكل وكتابا جديدا للدكتور جلال أمين. الأول هو كتاب «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان»، والثانى هو كتاب «ماذا حدث للثورة المصرية؟». بعد فترة لا بأس بها من الجوع الفكرى وجدت هذه الوجبة الدسمة، ورغم أنك غششت وتسللت للمطبخ كثيرا قبل موعد الغداء، وفى كل مرة كنت تخرج بفم محشو بالطعام وابتسامة خبيثة.. معظم هذه المقالات نشر فى الصحف وأكثره موجود على شبكة الإنترنت، وقرأته أنت من قبل، لكنك فى هذه المرة سوف تجلس وتلتهم بهدوء وجبة كاملة صحية دسمة كما يفعل البنى آدمين
الوجبة الأولى هى كتاب هيكل «مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان». كتاب مهم وكل شىء ينذر بأنه سيكون «خريف الغضب» الخاص بمبارك. كان مما يعذبنى أننى غالبا سأموت قبل مبارك -فهو من أسرة معمرة- ولن أقرأ ذلك الكتاب الرهيب الذى سيكتب عن عهده.. اليوم يبدو أننى سعيد الحظ
فى البيت ومع كوب من الشاى وعلى ضوء الأباجورة الخافت بدأت أدرك أن الأمر ليس واعدا لهذا الحد. أولا أنت قرأت كتاب هيكل كله بالكامل فى الصحف. ليست هناك فصول خفية لم ترها
ثانيا الكتاب قصير جدا.. مع هيكل أنت تعرف أن 300 صفحة هى المقدمة قبل أن تسخن الأحداث وتلتهب.. أو هى «أفان تيتر» الذى يسبق ظهور العناوين فى السينما، لكنها هنا هى الكتاب كله! ثالثا: هيكل يؤكد أكثر من مرة أن مبارك غامض ولا أحد يعرف عنه الكثير، وأن صحفيا عالميا جاء إلى مصر وظل سبعة أشهر يجمع البيانات ثم أعلن فشله عن معرفة من هو مبارك حقا. ويسترشد بما قالته «واشنطن بوست»: «إن من يظنون أنهم يعرفون الرجل هم فى الواقع لا يعرفون عنه شيئا»ـ
هذا نوع من الاعتذار عن حقيقة سنعرفها بعد قليل، هى أن هيكل نفسه لا يعرف مبارك تقريبا، وهذا شىء مقبول، لكن لماذا يتطوع بكتابة كتاب عنه إذن؟
يحكى العظيم أحمد بهاء الدين أنه اضطر فى مرحلة مبكرة جدا من حرب أكتوبر إلى كتابة كتاب اسمه «وتحطمت الأسطورة عند الظهر»، دون أن تكون عنده معلومات ولا وثائق كافية، بسبب ضغط الناشرين عليه، لأن كتاب «وتحطمت الطائرات عند الفجر» الذى كتبه الجاسوس الإسرائيلى باروخ نادل، كان معروضا عند باعة الصحف، وكان هدف الناشرين وطنيا محضا وقتها: رد الإهانة بألعن منها.. يبدو أن الأمر يتكرر هنا.. فالحقيقة هى أن هيكل لم تكن عنده مادة كافية لعمل كتاب، وأعتقد أنه تعرض لضغط هائل كى يخرج هذا العمل
هناك قاعدة جميلة وضعها هيكل فى كتاب «حرب الخليج» هى أنه عندما يطلب رئيس الدولة لقاء السفير، فالمهم هنا ما قاله رئيس الدولة، بينما عندما يطلب السفير لقاء رئيس الدولة، فالمهم ما قاله السفير. هذا خطأ يقع فيه الناس كثيرا، عندما تقابل فلانا فيقول لك: قلت له أنا مش حتنازل عن حقى. وقلت له إبراهيم شاهد على الفلوس اللى.. إلخ. بينما أنت تريد معرفة ما قاله فلان
هنا يخرق هيكل القاعدة التى وضعها هو نفسه، وهكذا يقابله مبارك فيقول هيكل: قلت له كذا كذا.. وشرحت له كذا.. إلخ. بينما القارئ فعلا يحترق فضولا ليعرف ما قاله مبارك. هذا إذن كتاب عما قاله هيكل لمبارك
الكتاب ملىء بالتلميحات، لكنه لا يوجه اتهامات صريحة أبدا. مثلا التلميح إلى أن مبارك له دور مهم فى حوادث جزيرة آبا «تمرد المهدية على النميرى»، واغتيال الهادى المهدى بسلة مانجو ملغمة. هنا تلميح لا يتضخم فيصير اتهاما أبدا. ولربما كان مشرفا على العملية، ولربما كان دوره مجرد تخويف المتمردين بالطيران المصرى. لا نعرف يقينا. هناك كذلك كلام كثير عن دوره فى نادى سافارى الشهير مع الكونت دى ميرانش مدير المخابرات الخارجية الفرنسية. لا نعرف من هذا الدور بالضبط سوى أنه كان خليفة لأشرف مروان. ونفهم كذلك أن له دورا ما فى صفقة الطائرات الميراج التى عقدتها فرنسا مع ليبيا عام 1971. لكن ميرانش يفضل الصمت. هذا الصمت ملىء بالاتهام طبعا
يلجأ هيكل كذلك إلى حيلة معينة فى الكتابة، وهى حيلة يصعب الإمساك بها.. كل ما يقوله مبارك يُقال بالعامية بينما كلام هيكل يقال بالفصحى، فمثلا يقول مبارك: «ياه.. إنتو جامدين قوى».. أو «الصحفيين دول عالم لبط وسيبهم يغلطوا»، أو «مقالك بينتهى دون أن نرسى على بر». بينما هيكل يتكلم بالفصحى طيلة الوقت وبكلام متزن جدا. ويقول لمبارك فى حزم: «سيادة الرئيس.. لا تكرر هذا الكلام أمام أحد ولا حتى أمام نفسك». النتيجة هى أنك تكتشف أن مبارك سوقى جدا وجاهل جدا، وهذا شىء نعرفه طبعا، لكن هل هيكل لا يستعمل العامية أبدا؟ دعك من هذه المقولة الرائعة التى قالها مبارك لخالد عبد الناصر، وتصلح أغنية لنانسى عجرم: «شوف يا بنى.. تبسبس آه.. تهلس آه… تسيّس لا»ـ
على فكرة مبارك لا ينادى هيكل إلا بلقب محمد بيه طيلة الكتاب.. هل هو مهذب لهذا الحد فعلا؟ وفى فصل كامل يعطى هيكل مبارك درسا عن اختيار السيجار الجيد بدلا من السيجار الردىء الذى كان يدخنه، وهنا يخبره مبارك أنهم كانوا فى الاتحاد السوفيتى يخفون الورقة أم 100 دولار تحت الجورب مغلفة بورق تواليت، ثم يغيرونها فى السوق السوداء.. كل دولار بـ21 روبل. «الواد بتاع المكتب العسكرى كان جِنّ». ومبارك يدخن السيجار الذى رشه عليه هيكل ويقول: «يا أخى عاوزين نتعلم العز». معلومات ممتعة فعلا لكنها ليست ما نتوقعه عندما يكتب هيكل عن مبارك. هذه أقرب لجلسة نميمة
أما عندما يقترب هيكل من مواقع الألغام فهو يبتعد فى هدوء عنها، لأنه لا يملك وثائق كافية. مثلا يقابل عبد السلام جلود ويتكلمان عن صفقة الميراج الشهيرة.. هنا يقول: «لا أستطيع أن أنقل ما قيل لأنه ليس لدى طرف ثان يؤكده»! وعندما يحكى عن لقائه بحسين سالم فى جنيف فإنه يتحفظ كثيرا فى نقل ما قيل، وعن حسين سالم بعد الثورة يقول إنه عرف الكثير من رشيد محمد رشيد، لكن هذا الأخير طلب أن يبقيه بعيدا لأن عنده من المشكلات ما يكفيه، ولم يذكر روايته عن الأيام الأخيرة لنظام مبارك فى مصر. «وللأمانة أنا لم أستأذن الرجل فى النشر، فلم يكن فى تقديرى حين قابلته أن أكتب هذه الصفحات»!ـ
إذن لماذا تصدر كتابا الآن يا أستاذ أستاذى؟ لماذا لا يكون كتابا ممتعا مكتملا موثقا مثل «خريف الغضب»؟
فى الأسبوع القادم نتكلم عن كتاب د.جلال أمين، وهو يختلف عن هذا الكتاب. بالتأكيد يربح د.جلال هذه المرة