لم تتصل تلك الحمقاء بعد
فكر د. هجرس في هذا وهو يراقب الشارع الصاخب الذي يطل عليه عبر النافذة التي تحتل جدارًا.. يرشف رشفة من عصير البرتقال الذي أعدّته له الممرضة، ويفكر في شاهنده
يرشف رشفة من عصير البرتقال الذي أعدّته له الممرضة ـ(رسوم: فواز)ـ |
عاد إلى المكتب وداعب خصلات شعره الأبيض، يبدو أن وقت الفراق قد اقترب جدًا.. هذا حظك السيئ يا فتاة.. سوف تفقدين كنزك قريبًا، ولكن لا ننكر أن معرفتك كانت ممتعة. مشكلة الصديقة -وهو اسم مهذب للعشيقة- هي أنها تتحول إلى زوجة بسرعة.. تطالب بأشياء.. تمدّ أناملها تحاول أن تعتصر حياتك.. لكنك بالطبع سوف تختار البقاء مع الزوجة الشرعية، وعندها سوف ترحل هذه، لكن لا بد أن يكون الرحيل ناعمًا.. لا جروح لا أحقاد.. وإلا كان بوسعها أن تُحدث ضوضاء حولك
-"No grudges"ـ
قالها لنفسه وابتسم
جلس إلى المكتب وصاح مناديًا المريض التالي
*********
المريض التالي كان امرأة ريفية نوعًا في منتصف العمر.. عرف على الفور التشخيص والعلاج ومستقبل الحالة من النظرة الأولى، هذا الوجه الشاحب المصفرّ والبطن المنتفخة والهزال العام.. وعندما رفعت عينيها أدرك أن بياض العينين أصفر
فهم هذا كله بينما المريضة تجلس وهي تحمل ذلك المظروف
المظروف اللعين! المكدس بالأوراق.. إخراجها يقتضي ساعة وإعادتها تقتضي ساعة، مع الكثير من البكاء والقصص الطوييييييييلة:ـ
ـ"دكتور سيد الشماشرجي كتب لي الأسبرين، لكن دكتور الششماوي كتب لي البانادول.. ودكتور أبو قورة كتب لي الريفو.. ثم عدت للشماشرجي فقال لي إنني أخطأت إذ تعاطيت البانادول؛ لأن......"ـ
اللعنة! يعرف كيف يقطع لسان المريض عند هذا الحد.. يجب أن يسكتها تمامًا فهي لن تضيف أي شيء جديد
اسمها "عز الشباب عبد السميع".. لماذا تأتي هذه الحالات المتقدمة وحيدة؟ من المعتاد أن يدخل مع المريض عشرة من أقاربه كلهم قلق وتوتر، وكلهم يشعلون السجائر الكليوباترا ويحيطون أعناقهم بالتلافيع، ويخربون بيتك؛ لأن مأمور الضرائب يكون في العيادة في هذا الوقت بالذات.. فلماذا جاءت هذه السيدة وحدها؟
عندما رقدت على الفراش وضع يده على ساعدها
فهمت!ـ
هذه حالة أخرى من الحالات التي لا نبض لها أو التي لا تقدر على قياس ضغط دمها.. ماذا يحدث في هذه الأيام؟ الأمر يتجاوز الصدفة
ثم.. هذا الاسم.. عز الشباب.. اسم غريب لكنه مألوف
*********
ـ"ليس موضوع الصعوبة.. المشكلة هي أن المرء يبحث عن أدواته أحيانًا فلا يجدها جاهزة.. هل تفهمين؟"ـ
ـ"لا.."ـ
*********
المستشفى العام الكبير
الليل.. القطط تطلق عواءها من حين لآخر.. والممرضات يقلن إن هذا صوت الأرواح.. أرواح كل من ماتوا من قبل.. هذا ما قالته عواطف وهي تتنفس بحرارة جوار أذنه
طبيب الامتياز الشاب الوسيم د. هجرس.. ما زال بلا خبرات، وما زال لم يكتسب بريقه الأبدي بعد، لكنه ما زال وسيمًا وما زالت له مغامرات ومغامرات
وفي العنبر مريضة الاستسقاء "عز الشباب".. السيدة في منتصف العمر.. وحدها هذه الليلة فقد رحلت ابنتها إلى القرية.. كانت تتنفس بصعوبة، وقد طلب منه الطبيب المقيم أن يسحب من بطنها لترًا واحدًا فقط.. لترًا واحدًا يريح تنفّسها
ـ"هي على حافة الفشل الكبدي الكلوي.. لا نريد أن ندفعها دفعًا"ـ
قام بتثبيت إبرة البذل في بطنها.. لم يجد لاصقًا فاستعمل قطعة لاصق قديمة كانت مثبتة على الفراش.. وبدأ السائل الشفاف يتدفق في الزجاجة
قالت له بصوت مبحوح:ـ
ـ"اشفني يا دكتور.. سأحمل لك هذا الجميل ما حييت"ـ
هزّ رأسه وقال إن الشافي هو الله، ثم انسحب إلى مكتبه
عواطف.. مشاعر الشباب الحارة.. الليل.. الوحدة.. التهور.. الجموح
القطط تعوي.. "تعوّص" (بتشديد الواو) كما قالت عواطف.. عواطف كانت الأولى.. لم تكن الأخيرة أبدًا.. لماذا يدوّي الرعد في السماء؟
عندما دنا الفجر فتح عينيه بصعوبة.. نهض متثاقلاً نحو العنبر
هناك رأى الجسد الراقد في الفراش
لم يحتجْ أن ينظر إلى الوجه، فقد رأى على الأرض تلك البركة من السائل.. ورأى أنه تحوّل إلى دم قرب النهاية.. لقد صار البطن مسطحًا تمامًا.. تم تفريغ بطن المريضة حتى إن الإبرة أدمت بعض الأعضاء الداخلية، وحينما نظر لوجه المريضة رأى قناع الموت الشمعي.. العينين الشاخصتين
تبادل النظرات مع عواطف التي وقفت جواره بشعر منكوش حافية القدمين.. وتلقائًيا رفع الملاءة ليغطي وجه الجثة. نظرت حولها ونظر حوله.. كل الأسرة المجاورة كانت تسبح في الظلام، وكان مرضاها أكثر مرضًا من أن يلاحظوا أي شيء
وتلقائًيا رفع الملاءة ليغطي وجه الجثة ـ(رسوم: فواز)ـ |
لقد مرّت الجريمة بسلام
في الصباح سوف يكتشف الطبيب المقيم أن مريضته ماتت، لكنه لن يسأل. لا أحد يشكّ في وفاة مريضة بهذا التدهور
وفيما بعد سوف ينسى القصة كلها.. مَن الأحمق الذي قال إن حادثة كهذه لا يمكن نسيانها؟ لكن الاسم ظل محفورًا في داخله.. كتبه في شهادة الوفاة وظل يتردد في ذهنه مرارًا طيلة الأعوام التالية، وحتى صار أستاذًا ترتجّ الأرض لهيبته
اسمها "عز الشباب عبد السميع"ـ
*********
كان يفحص المريضة وهو يفكّر في هذا كله
لما أنهى الفحص قال لها إنه يرغب في أن تدخل المستشفى بضعة أيام. الحقيقة أنه كان يريد أن تبقى بقربه.. وافقت فكتب لها خطاب دخول، ولسبب لم يفهمه طلب الممرضة وأمرها أن تعيد ثمن الكشف للمريضة
لما غادرت المريضة الغرفة جلس إلى المكتب.. طلب من الممرضة أن تمنحه عشر دقائق.. عشر دقائق يدخّن فيها السيجار، وكانت تعرف أنه يفعل ذلك في الشرفة؛ حتى لا يصير جو غرفة الفحص خانقًا، وكانت كذلك تقول للمرضى بشكل روتيني إن الدكتور يصلّي
وقف في الشرفة يتأمل طرف السيجار المشتعل
كان عمليًا سريع التفكير لا يندهش أبدًا.. وهكذا كان قد كوّن في ثوانٍ تقييمه للموقف
واضح أن المرضى الذين قتلتهم في الماضي يعودون للانتقام مني!ـ
فكرة غريبة وسخيفة لذا لم يؤمن بها إيمانًا تامًا.. طبعًا هو لا يعرف أنه في قصة رعب، وإلا لفكر في هذا الاحتمال جديًا، لكنه في عالم الواقع.. وفي عالم الواقع لا يعود الموتى لمطاردة الأطباء
لا بد من تفسير آخر.. تشابه الأسماء والملامح ليس دليلاً كافيًا.. لكن ماذا عن طوفان مرضى بلا ضغط دم ولا نبض ولا تنفّس؟
يحتاج إلى التركيز.. يحتاج إلى اتخاذ قرار صحيح
شاهنده أيتها الحمقاء.. أين أنت؟ أنا بحاجة إليك!!ـ
.......
يُتبَع