حالة الحيرة التى نعيش فيها مستمرة، وما زالت أحوال الثورة مقلقة والجدل لا ينتهى، دعك من الارتباك الناجم عن اضطراب قائمة المرشحين.. تراجع ثم ظهور عمر سليمان، وحازم أبو إسماعيل الذى اعتقدت أن موضوع فوزه صار منتهيا مع كل هذه الدعاية الساحقة، لكن موضوع الأم الأمريكية جعلنا لا نعرف أى شىء، والظهور المفاجئ لخيرت الشاطر. لكن لو نظر المرء إلى نصف الكوب الممتلئ لوجد أننا نخوض انتخابات رئاسة حقيقية لأول مرة فى تاريخنا.. أليس هذا رائعا؟ ولو أننا ضمنا أن يرحل الرئيس القادم بعد أربعة أعوام أو ثمانية، فهذا يعنى أن الثورة نجحت بالفعل وباقى المشكلات يمكن أن تصحح نفسها، وسوف نصير أفضل بالتأكيد، لأن مبدأ الحساب سوف يأتى بالأفضل والأنشط والأصدق. سوف يتعلم الناس من الأخطاء وتخضع الأطراف للتجربة الحية من دون شعارات، ثم تأتى لحظة الحساب ويقرر الناخب بعد أربعة أعوام خلاصة التجربة. هذه هى النقطة التى ربحناها ويجب الدفاع عنها حتى الموت، ولو فقدناها فمعنى هذا أن الشهداء ومن فقدوا أعينهم خسروا ما خسروه بلا ثمن
البعض يرى فى هذا سذاجة، لأن الطرف الذى وصل بالشعارات الدينية قادر على البقاء للأبد، لكن لا توجد طريقة أخرى لممارسة الديمقراطية على قدر علمى. إما أن تمارسها كما هى أو تعترف بأن مبارك وأحمد نظيف كانا على حق عندما قالا إن الشعب المصرى لم ينضج للديمقراطية بعد. أطراف عديدة تؤمن أن أول شهر يونيو هو الفيصل مع صدور الحكم على مبارك.. يرون أنه موعد مصمم بدقة لتنفجر الأمور وتعلن الأحكام العرفية قبل انتخابات الإعادة. رأيى أننا سنعرف وقتها، لأننا قضينا عاما ونصف العام من التكهنات الخاطئة.. ولو راجعنا أعمدة الصحف القديمة لأصابنا الذهول.. الكل يتكلم ولا أحد يعرف أى شىء على الإطلاق
حالة الحيرة هذه يحاول د.جلال أمين فى كتابه (ماذا حدث للثورة المصرية) أن يزيلها. د.جلال ليس على مقربة من صانعى القرار، ولم تجمعه جلسة بميتران أو تاتشر، وليست لديه وثائق سرية، لكنه يمارس ببراعة الدور الذى يعرف أنه يجيده: التساؤل (السُقراطى) المنطقى.. لا يأخذ شيئا كحقيقة مطلقة نسلم بها. يحاول أن يرتب أفكاره وأفكارك بشكل أفضل، وهكذا يمكنك أن تسمع صوت مخك وهو يهضم هذه الأفكار المنطقية المترابطة
عنوان الكتاب من اللحظة الأولى صدى للمخاوف التى تراودك أنت نفسك: ماذا حدث للثورة المصرية؟ فعلا حدث شىء ما.. سرقت أو كسرت أو تخبطت
الكتاب سلسلة مقالات نشرها د.جلال قبل وبعد الثورة، ولهذا هناك بعض من عدم التجانس، لكنك فى النهاية تدرك أن طريقة الرجل فى التفكير تربط هذا كله. يمكننا أن نبدأ من لحظة الثورة ذاتها مع لحن عزفه الجميع وقتها: الانبهار.. عدم التصديق.. النشوة. لقد هبت عاصفة الثورة ففضحت الجميع.. صاحب الفكر الجديد لم يكن عنده أى فكر سوى أن يصير الرئيس القادم. المسؤول عن الإعلام كان يهرب الذهب، والمسؤول عن الشرطة كان يقتل الأقباط ويورد البغال للبلطجية. لقد انزاح للأبد كابوس حملة التوريث وخرج وزراء مكروهون إلى غير رجعة. والأهم أن الثورة فضحت مئات المنافقين الصغار الذين نافقوا كل الحكام، وعادوا إسرائيل عندما عاداها الحاكم ثم دعوا إلى السلم معها عندما دعا الحاكم إلى عدم التشنج. لكن الناس فى غمرة الفرح نسوا أنه من الطبيعى أن تواجه ثورة كهذه أعداء مهمين وأقوياء
مما يدعو للقلق أن الثورة تعانى مشكلة (انفصال الملكية عن الإدارة)، فالذين صنعوا الثورة ليسوا هم من يتخذون القرارات الحاسمة ويسيرون البلاد.. هذا وضع فريد من نوعه. آمن د.جلال وقتها بأنه لا داعى لاستعجال الانتخابات إلى أن يعود الأمن للشارع، لأن الانتخابات مستحيلة فى ظل خوف الناس من رجال الشرطة أو من غياب رجال الشرطة. كذلك لا بد من استعادة هيبة القضاء قبل أى انتخابات، ولا بد من فترة لتكوين أحزاب وتبادل الأفكار.. إن مهمة ثوار يوليو 1952 كانت سهلة جدا بالنسبة إلى ما يواجهه ثوار 2011.. لم يكن السوس ينخر فى القضاء، وكانت الشرطة تؤيد الجيش من البداية
عندما يدخل د.جلال عالم الاقتصاد، فهو يحارب على أرضه وفى مملكته الخاصة، وهو يقول حقائق نعرفها، لكننا لم نكن نعرف أننا نعرفها.. مثلا ليست المشكلة هى الخلاف بين يمين ويسار، فناعوم تشومسكى رأى أن أمريكا لا تحارب الشيوعيين بل الوطنيين! إن جلال أمين يؤمن أن مصر تستطيع تحقيق نهضة اقتصادية تحت اقتصاد رأسمالى أو اشتراكى.. لا فارق.. المهم النزاهة والوطنية. لكن المسؤولين عن الاقتصاد هم دوما موظفون بلا موهبة، يفهمون المصطلحات الاقتصادية ويجيدون تنفيذ توجيهات واشنطن
يرى د.جلال أنه لم يكن هناك أى داع للشقاق الذى أحدثه الاستفتاء.. بل كان يرى أن الاستفتاء نفسه لم يكن له داع، فهو مجرد تصويت على حذف البنود التى كانت تحاول تمرير مشروع التوريث، وقد انتفت الحاجة له مع الثورة. وفى نفس الوقت يرحب الإعلام برجل قتل السادات ليظهر وسط حفاوة على الشاشات ليقول إن قتل السادات كان الحل الوحيد
إن ثورة يناير مليئة بالألغاز، وما زالت.. لعل هذا -فى رأيه- يعود إلى عصر التكنولوجيا الحديثة التى تتحكم فى مشاعر الناس وعقولهم. وتريهم مجموعة صور متحركة فلا يعرفون هل هذا هو الواقع أم هو ما يريد المخرج أن يروه
ينتقل المؤلف إلى المشهد الدينى والصراعات الطائفية، وهنا يكتب رسالة حب رقيقة إلى الإمام محمد عبده الذى يتمنى لو يجبر الطلبة على دراسة أفكاره فى المدارس. يجب أن تكون لدينا الشجاعة على الفصل بين الدين والتدين، لأن نقد التدين صار مرادفا للهجوم على الدين لدى الكثيرين
لقد أفاق الناس على حقيقة كانوا يرفضون تصديقها طيلة عشرة أشهر، هى أن من استلموا السلطة بعد الثورة لا يدينون بالمبادئ التى قامت الثورة من أجلها. لكن المؤلف يحذر من الاستسلام لأحداث قصيرة العمر بل يجب النظر إليها فى إطار تاريخى طويل المدى. مثلا عرفنا التطور الرائع لدى الشباب المصرى.. هذا الشباب نشأ فى الثلاثين سنة الخاملة من حكم مبارك، وهذا معناه أن التاريخ يراوغنا.. التليفزيون الفاسد الملعون لا ننكر أنه عرف الشباب بالعالم وشحذ ذكاء هؤلاء الشباب. وبعد هذا جاء الكمبيوتر والإنترنت. نظام التعليم الفاسد أدى إلى توسع كمى فى التعليم رغم كل شىء. إن الأخطاء تقود إلى نكسات خطيرة، لكن النكسة يمكن النهوض والمشى بعدها. د.جلال متفائل بطبعه، ويقول إن الأحوال فى مصر بلغت درجة مرعبة من التردى، بحيث لا يمكن أن تصير إلا لأفضل. ثم إن تاريخ مصر يمر بمنحنيات هبوط وارتفاع، لكنه فى كل مرة يبدأ من نقطة أفضل مما فات. إن اليأس يقتل لكن الأمل يحدث تغيرات لا تصدق فى النفوس بين يوم وليلة. دعك من تغيرات طيبة طفيفة مثل خروج المرأة للعمل وانتشار التعليم واتصال الشباب بالعالم
هذا كتاب ممتع مغر بالتفكير، وتلخيصه صعب جدا لذا أكتفى بأن أنصحك بأن تقرأه مرتين أو ثلاث مرات. إن د.جلال أمين لا يستطيع التخلى عن عادة إبهارنا بتفكيره المنظم الخلاب