في الصباح جاء رجال الشرطة والتقطوا عشرات الصور
كان ما تركتُه للناس هو رسالة قصيرة مخيفة فعلاً: الحارس المسنّ على باب الثلاجة، وقد بدا الهلع في عينيه الشاخصتين المتجمّدتين، وفمه مفتوح في صرخة لوعة مخيفة فعلاً
شيء أثار ذعر الرجل.. أفزعه إلى درجة أن قلبه توقف.. هذا ما سوف يستخلصونه من المشهد، لكن الرسالة الأخطر هي شطرا الفتاة التي مرّ القطار على جسدها.. هناك شلو في كل موضع من القاعة.. لا أحد يعرف السبب ولا لماذا أخرج الحارس هذه البقايا
الاستنتاج الذي لن يجرؤ أحد على التصريح به هو أن الأشلاء غادرت الثلاجة بنفسها.. لن يكتب أحد هذا في التقرير، لكن الكل سوف يتذكره.. وسوف يتذكره جيدًا الحارس الليلي القادم ومَن بعده
هذه هي تركة الرعب التي نتركها نحن سادة جانب النجوم في كل مكان
*******************
راحت ناهد تراجع الملف الذي أعدّته لها سكرتارية الوزير السابق محمود شرف، والذي افترض الرجل أنها ستطعّم المقال به.. بالفعل هناك فجوات كثيرة في قصة هذا الرجل.. كانت تعرف أنه من قائمة "لا تاريخ لهم - جاءوا فجأة - جاءوا من مكان مجهول - قتلوا الألوف"ـ
نزلت من الميكروباص.. لسبب ما كانت تعتبر الميكروباص وسيلة من وسائل العمل الصحفي.. لا تثق بأي صحفي يذهب لمقابلة المصدر في سيارة ملاكي.. ربما سيارة تاكسي لو كانت ظروفه المالية تسمح، لكنها اليوم لا تجد نقودًا معها
من جديد ينبح كلب الدوبرمان ويخمش البوابة.. يجرّه رجل الأمن بصعوبة.. كاشف المعادن
هناك عند حمام السباحة يجلس محمود شرف كما رأته من قبل.. كان يجفف نفسه بالمنشفة، ثم وضع الروب على كتفيه وقال دون أن ينظر لها:ـ
ـ"سوف نتكلم بالداخل.."ـ
تتبعه إلى ممر ضيق يجلس رجل أمن على بابه، ثم إلى غرفة جلوس صغيرة تعبق فيها رائحة التبغ.. يتجه لدورق معدني بارد ويصبّ لها بعض عصير الليمون في كأس
عاد ليجلس ويضع ساقًا على ساق.. ينظر لها في ثبات
قال لها بعد صمت طال:ـ
ـ"هل قرأت الملف؟"ـ
ـ"نعم.."ـ
ـ"الحقيقة أنني لا أفهم سبب اهتمامك البالغ باقتفاء أثري.. لقد قابلت كل شخص يعرفني.. بحثت عن كل شيء يتصل بي.. إن لي مصادري.."ـ
قالت في برود وهي ترشف الليمون:ـ
ـ"هذا شيء طبيعي.. أنا صحفية.."ـ
هزّ رأسه مفكرًا
لما فرغت من الكأس وضعته على المنضدة جوارها.. هنا لاحظت أن الرجل يرمقها في فضول وثبات.. بعد صمت طال قال لها:ـ
ـ"أنت تشعرين طبعًا بثقل جفنيك.. السبب هو عقار "روهيبنول" الذي وضعته لك في عصير الليمون.."ـ
شعرت بأن الرؤية مضطربة نوعًا
قال وهو يبتسم:ـ
ـ"هذا العقار مشهور في الخارج.. يسمونه "عقار الاغتصاب في المواعيد الغرامية" لسبب لا يغيب عن فطنتك.. لن تغيبي عن الوعي.. لن تكوني في غيبوبة، ولكنك ستفقدين أي إرادة.. ستفعلين أي شيء أطلبه منك.. يمكنك تخيّل ما سيحدث.. فيلم فيديو ومجموعة صور.. بعدها لن تتكلمي أبدًا.. سوف تخبرينني بكل شيء.. من أرسلك ولماذا؟ لماذا تلاحقينني.. قبل هذا سيأتي رجل أمن لتفتيشك ليتأكد من جديد من أنك لا تحملين أجهزة تنصّت.. هل فهمت يا صغيرة؟"ـ
نظرت له بعينين زائغتين، فأضاف:ـ
ـ"هل فهمت؟ سوف تفعلين كل شيء بإرادتك ولن تستطيعي اتهامي بشيء.. هذه هي فائدة علم الفارماكولوجي.. حتى لو أخبرت العالم كله بأنك هنا في داري فلن يستطيع أحد اتهامي بشيء.."ـ
ثم أشعل لفافة تبغ ببطء، وقال لها وسط سحب الدخان:ـ
ـ"السؤال الأول الذي سنعرف إجابته حالاً هو: لماذا تلاحقينني؟ لماذا لاحقت د. مختار ومصطفى عبد الباري؟"ـ
ثم نفث سحابة كثيفة وأضاف:ـ
ـ"السؤال الثاني.. من أنت؟ لقد بحث عنك رجالي في نقابة الصحفيين وفي تلك الجريدة.. كل معلوماتك زائفة.. أنت كاذبة.. السؤال الثالث هو: ما أنت؟ لماذا ظلت كلاب الدوبرمان ترتجف وكفّت عن الأكل بعد زيارتك؟ إنها تنبح في البداية ثم تكتشف أن الأمر أكبر منها.. هل من تفسير؟"ـ
هنا رفعت ناهد رأسها ونظرت له وقالت بصوت كالفحيح:ـ
ـ"أنت ذكي.. د. مختار كان ذكيًا.. من الواضح أن الأشرار أذكى من الأخيار نوعًا.. د. مختار عرف أكثر من اللازم ومن الواضح أنك مثله!"ـ
لم يفهم ما حدث بالضبط
يبدو أن هناك ممسات تخرج من صدر الفتاة.. ليست فتاة أصلاً.. إنها أقرب لكائن مخيف يتكون من أهداب لا حصر لها.. رأى ذات مرة صورة لأم أربع وأربعين مقلوبة فلم يتحمل بشاعة المشهد.. هنا كان يرى المشهد ذاته على نطاق واسع
وقبل أن يفهم أدرك أن هناك ممسًا في صدره.. وأن هذا الممس يخرج من فمه... وأن
يبدو أن هناك ممسات تخرج من صدر الفتاة ـ (رسوم: فواز) ـ |
*******************
توملل دجملا.. لوهلل دجملا
ـ"هبني الهول... هبني الهول!"ـ
انتهيت من تمزيق الكائن الأرضي فغادرت المكان.. لقد كررت تقريبًا ما حدث مع مختار من قبل
كنت آمل دومًا أن أجد آخرين من جانب النجوم يتنكرون في مظهر أرضي ويحاولون نشر الهول كما أفعل أنا.. كنت آمل أن أتحالف معهم وبهذا نخلق عاصفة من الهول تجتاح مصر.. هذا هو التجديد الحق.. ولسوف أكون زعيم الهول هنا. كنت أعرف أنهم لو وُجدوا فلسوف يكونون من صيرورة أخرى، ولسوف يكون من الصعب أن أعرفهم ما لم ألقهم شخصيًا.. نحن لا نعرف خطط من هم من صيرورة أخرى، ولا نعرف من هم ولا كيف يبدون.. الأمر يختلف عن مفهوم الزمالة كما يفهمه الأرضيون
جرّبت البحث عنهم في صورة الصحفية ناهد.. لكني لم أجد أحدًا من جانب النجوم. كلهم أرضيون جدًا
وفي كل مرة أضطر لتدمير الكائن؛ لأنه عرف أكثر من اللازم
لقد حان وقت الرحيل.. يجب أن أترك هذا البلد.. إن فيه من الوحوش الآدمية ما يفوق الآتين من جانب النجوم مثلي، وليس لمثلي الكثير مما يقوم به.. مجرد ألعاب صبيانية من تحريك الجثث والمومياوات.. لكني لن أحقق الحلم الثوري الذي تمنيت تحقيقه
هكذا مشيت إلى تلك المقبرة في وادي الملوك.. أبحث عن الفتحة التي أعبر منها. سوف أبحث عن فتحة أخرى في بلد آخر.. بلد يحتاج إلى إبداعاتي ومحاولاتي، بدلاً من هذا البلد المكتفي ذاتيًا
هكذا مشيت إلى تلك المقبرة في وادي الملوك ـ (رسوم: فواز) ـ |
ـ"أنا ساحال.. هبني الهول يا سيد الصيرورة.."ـ
توملل دجملا.. لوهلل دجملا
تمّت