قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, June 23, 2012

قصة مرعبة




دعونا نستعد أجواء قصص الرعب فقد تركناه منذ زمن, غير أن هذه القصة حدثت فعلا بهذه التفاصيل الرهيبة, وإني لأنذرك أنها مخيفة جدا لا تتحملها أعصاب كثيرين

كان الأستاذ عبد الظاهر رجلا محترما من مثقفي الستينيات . أنت لا تعرفهم جيدا ولا تعرف عمن أتكلم , فأقول إنه ينتمي لمجموعة المثقفين الذين سادوا مصر في الستينيات , وأحدثوا الكثير من الحراك الأدبي , وآمنوا بالاشتراكية بشدة .. وبدا لهم أن المستقبل مشرق ساطع , ثم جاءت ضربة قاسية موجعة اسمها هزيمة 1967, فتقوقعوا .. وامتلك كل منهم اكتئابه الخاص , ومع الوقت رأوا أحلامهم تضمحل ورأوا كيف انتصر رجال الأعمال وتجار الشنطة , والمسرح الذي كان يقدم مسرحيات يونسكو وسوفوكليس صار يقدم مسرحيات عجيبة تتضمن رجلا صعيديا يطارد قزما بمسدس , ورجلا بالثياب الداخلية يتلقي صفعة علي قفاه .. إلخ 

لقد تغير العالم لكن الأستاذ عبد الظاهر لم يتغير .  من أحاطوا به في أيام مجده عرفوا أنه لم يتغير .  وكان من الطراز الوقور الذي يشرب الشاي في فنجان ويأكل بالشوكة والسكين , كما أنه لا يذهب لشراء ربع حلاوة من دون أن يحمل معه كتابا عن ( آليات النقد في أدب أمريكا اللاتينية ) , والكتاب واضح يراه الجميع .. ويراه البقال فترتجف يده رهبة وهو يقطع الحلاوة 

كل الحي يعرف أن الأستاذ عبد الظاهر إنسان مثقف وعظيم , خاصة وهو لا يرتدي إلا البدلة وربطة العنق حتي لو كان ذاهبا لرتق حذائه 

الحياة تزداد سوقية وفجاجة .. كل شيء يتغير 
  
هناك قصة لسومرست موم تحكي عن دبلوماسي بريطاني متحذلق في جنوب شرق آسيا . تكون الكارثة في حياته هي أنهم يرسلون له مساعدا لا يحترم أي شيء ليعمل معه . لا يحترم أي شيء معناها أنه يقرأ رواية بوليسية وهو يتناول العشاء , كما أنه يتناول العشاء حافي القدمين !.. هذا بالنسبة للدبلوماسي البريطاني شيء لا يمكن تحمله .. النتيجة هي أنه يخطط لقتل هذا المستهتر ..!ـ

الحقيقة أن الأستاذ عبد الظاهر يصلح جدا لهذه القصة .  والأسوأ أن ابنه المراهق الوغد لا يكف عن تعذيبه .. ابنه في التاسعة عشرة , وهو يعيش مراهقته بشدة وحماسة .. يغني أشياء غريبة جدا مثل ( بوس الواوا دح ..) وما هو أغرب 

كان الأستاذ عبد الظاهر يعتبر سماع أغاني فايزة أحمد نوعا من التنازل , لأذن اعتادت سماع أم كلثوم .. هنا يأتيه من يغني عن الواوا.. لكن ابنه كان سعيدا جدا وراضيا عن نفسه وعن الحياة 

الأستاذ عبد الظاهر أرمل كما هو واضح ويعيش مع ابنه في تلك الشقة , ومع الوقت انتهت المحادثات بينهما .. كل منهما يحب الآخر بشدة ولا شك في ذلك , لكنهما لا يتبادلان ما يكفي من الكلام .. ربما عشر جمل في الأسبوع أو أقل 

يقوم الأستاذ عبد الظاهر بطهو طعام الغداء .. إنه يستمتع بذلك .. ثم يعد المائدة بطريقة تدل علي الرقي بلا شك . يجلس مع ابنه .. يراقبه وهو يأكل كالمسعورين ويمزق اللحم بيده , ثم يرفع سلطانية الحساء ويصبها في حلقه صبا 

ـ' الحساء لا يشرب إلا بالملعقة 'ـ
ـ' بل أفعل مثل اليابانيين .. يشربون من السلطانية ولم يهلكوا أو يدخلوا جهنم بعد 'ـ
ثم يتبعها الوغد بـ ( شريييييييييييييييب ) ـ

هكذا تمضي الحياة .. الابن الوغد المستمتع بالحياة والذي يرى أن كل شيء ممتاز . والأب المغتاظ الذي يشعر بالحيرة وبأن الحياة سوقية أكثر من اللازم 

في ذلك اليوم الموعود كان الأستاذ عبد الظاهر وحده في البيت .. ابنه كان في الكلية .. وكان يعني ببعض أمور الشقة وهو يلبس الفانلة الداخلية مع سروال المنامة .  دق جرس الباب فاتجه ليفتح ناسيا أن يلبس شيئا   

هنا فوجئ بشيء يثب في أحضانه كأنه قرد مشعر مبلل بالعرق , وانهالت قبلات لزجة علي خديه , بينما هناك من يردد وهو يلهث :ـ
ـ' أنت لم تعد تسأل لذا قررت أن آتي لأعرف ما دهاك .. أنت لم تعد تسأل لذا قررت أن آتي لأعرف ما دهاك .. أنت لم تعد تسأل لذا ............... .. 'ـ
كان عبد الظاهر يحاول فهم : لماذا يصرخ هذا الرجل بلا توقف 

أخيرا استطاع أن يعرف من هو . هذا هو الحاج مدكور . في وقت ما كان الأستاذ عبد الظاهر مدير شركة , وكانت الشركة تتعامل مع تجار كثيرين .. ومن ضمن هؤلاء التجار الحاج مدكور . لقد قرر أن يعد مفاجأة لصديقه القديم ويزوره . ودخل الحاج مدكور البيت وهو ما زال يردد :ـ
ـ' أنت لم تعد تسأل لذا قررت أن آتي لأعرف ما دهاك .. أنت لم تعد تسأل لذا قررت أن آتي لأعرف ما دهاك .. أنت لم تعد تسأل لذا قررت أن آتي لأعرف ما دهاك 'ـ

ثم بدأ الرجلان يسترجعان الذكريات وهما يشربان الشاي الذي أعده الأستاذ عبد الظاهر . إن لهما تاريخا طويلا انتهي عندما خرج عبد الظاهر إلي المعاش , أما الحاج مدكور فهو ما زال يعمل وإن لماما ..  سن مدكور أصغر بكثير 

هنا بدأ الأستاذ عبد الظاهر يستنتج اللغز وراء هذه الزيارة المفاجئة .  لقد جاء الحاج مدكور ليسأل :ـ
ـ' أعرف أنك كنت تسافر كثيرا أيام العمل .. فهل أثر هذا السفر علي رجولتك الفذة ؟ 'ـ
هكذا فهم 

كان كل من تعاملوا مع الشركة يعتبرون عبد الظاهر علامة يعرف كل شيء . والسبب طبعا أنهم لا يفهمون حرفا مما يقول .  هكذا لاحظ الحاج مدكور أن أداءه كزوج لم يعد علي ما يرام , لذا قرر أن يزور عالم العلماء الأستاذ عبد الظاهر .. وهو بهذا لا يعتبره الأكثر علما بل كذلك يعتبره الأكثر فحولة .. هذا التقديس شبه الوثني أثار إعجاب عبد الظاهر بنفسه وانتفخت أوداجه 

وضع الأستاذ عبد الظاهر رجلا علي رجل وبدأ يتكلم في وقار .. يتكلم في فخر 

حكي للحاج مدكور كيف أن رجولة الرجل لا تقاس بالأعضاء ولكن تقاس بالطباع الرجولية فقط . حكي له عن أبحاث فيتامين ( هـ ) والدكتورة آنا أصلان وأطباء رومانيا العباقرة .. حكي له قصصا غريبة عن قدرات جنسية مذهلة 

كان الحاج مدكور يصغي في انبهار وقد فتح فمه غير مصدق , وكله إيمان مطلق بأطباء رومانيا العباقرة وخصوصا آنا أصلان 
طال الحديث 

وفي النهاية نظر الحاج مدكور إلي ساعته وأعلن أنه يجب أن ينصرف .. لماذا لا تتناول الغداء معنا يا حاج ؟ .. لا .. شكرا .. يجب أن أسافر إلي السنبلاوين اليوم 
واتجه للباب وهو يردد بلا توقف :ـ
ـ' أنت لم تعد تسأل لذا قررت أن آتي لأعرف ما دهاك .. أنت لم تعد تسأل لذا ..........'ـ
وعلي الباب انحني ليلثم خدي الأستاذ عبد الظاهر من جديد . وخرج عبد الظاهر إلي مدخل البيت ليودعه وهو يهبط في الدرج 
ـ' سلامي لرامي الصغير .'ـ
قال عبد الظاهر ضاحكا :ـ
ـ' لم يعد صغيرا ..  واسمه ليس رامي 'ـ
ـ' لم يعد رامي؟ .. هذا غريب ..'ـ
ـ' يا حاج ... اسمه علاء منذ ولد ..'ـ

اختفي رأس الحاج وصوته .. هنا استدار أستاذ عبد الظاهر ليعود لشقته , لكنه اكتشف أن الباب مغلق !... حاول أن يدير المقبض عدة مرات .. حاول أن يفكر بعقل 

لا يوجد مفتاح .. المفتاح داخل الشقة .. هذا من الأبواب التي تغلق بكالون ( لاتش ).  لابد أن الهواء جعل الباب ينزلق. المشكلة الآن ـ فكر بعقل وهدوء - هي أنه بالفانلة الداخلية وسروال البيجامة وحافي القدمين !.. لا يوجد هاتف محمول لأنه داخل الشقة 

الفكرة جعلته يرتجف .. هذا جعله يدرك أنه لا فائدة من العقل .. لا فائدة علي الإطلاق . لابد من العودة للذعر الأولي الوحشي . راح يهز المقبض ويهز الباب مرارا بلا توقف 
ماذا يفعل ؟

المشكلة هي أن الساعة الثانية عشرة ظهرا .. لن يعود ابنه قبل ساعتين .  سيظل واقفا هنا ويراه الجيران كلهم .. الجيران الذين لم يروه إلا بالبذلة وربطة العنق 

راح يوجه الركلات للباب .. سمع بابا ينفتح من تحت .. يجب أن يكون حذرا لأن الضجيج سيجعل الجيران يخرجون 

يمكنه أن يقرع أي باب ويطلب مساعدة لاقتحام الباب .. أو يطلب الاتصال بابنه ليأتي .. لكن لا يمكن أن يتوقع إلا أن يقابل جارة بثياب النوم ذهب زوجها للعمل وأولادها للمدارس , وقد بدأت في تقطيع الكوسة   .. ماذا ستقول هذه الجارة وماذا ستفعل عندما يدق الجرس لتجد رجـــــــلا حافي القدمين بالفانلـــــة الداخلية ؟ .. حتـــــي لو كــــان في سنه ؟

لكن هل يظل واقفا هكذا ؟

سمع صوت خطوات فأدار وجهه للباب وتظاهر بأنه يحاول فتحه , بطرف عينه رأي سيدة شابة يعرف أنها تسكن في الطابق الخامس.. تصعد ببطء وريبة كما هو واضح .. تمر جواره .. تنظر له في شك ثم تواصل الصعود دون أن تبعد عينيها عنه . يا لشدة تدخل المصريين فيما لا يعنيهم !.. من حقه أن يلبس ما يريد فلماذا تعتبر أن من حقها التحرش به ؟

بعد لحظات سمع صوت خطوات .. هناك طفل متشرد وغد قادم من أعلي . الطفل يغني ويصفر ثم ينظر له .. يمر بجواره فيبطئ من سرعة التصفير .. ثم يفر تقريبا 

أين ابنه ؟ .. أين علاء هذا المراهق المتشرد ؟ .. كليــــــة ؟ .. أضحكتني .. هل يمكن لوغد كهــــــذا أن يذهب للكلية أو يعرف مكانها ؟.. بالتأكيـــــــد هو في وكر قذر يمارس الفسق ويشرب المحرمات ويدخن الممنوعات , مع مجموعة من رفقاء السوء , ومع ألعن عينة من الفتيات الساقطات .. ثم يزعم أنه كان في الكلية ويطالب عبد الظاهر الأبله بدفع ثمن شهواته .. لقد ارتفع ثمن المذكرات .. إلخ ..  لماذا لا يعود هذا الخنزير؟ .. إن يوما واحدا بلا خمر وحشيش ليس مستحيلا .. فقط لينقذ أباه من هذه المذبحة ... إنه شرير مثل أمه .. ومنحط مثل عمه .. سوف يدفع الثمن 

وفجأة يلين من جديد .. ليته يعود .. هذا الحبيب .. هذا الفتـــــي الوسيم المنقذ 

لماذا لا يعود ؟ .. بالتأكيد قد مات .. يا حبيبي يا ابني .. كم كنت رقيقا مفعما بالحياة 

يشعر ببرد رخام السلم تحت قدميه الحافيتين , وتؤلمه قبضتاه . الشقة بالداخل .. الشقة الجميلة المنظمة بما فيها من كتب .. بما فيها من أطعمة .. بما فيها من ثياب وجهاز تليفزيون .. تبدو له الآن مثل حلم إسرائيل بأرض الميعاد 

لن أكرر نفسي ... هناك ألف جارة صعدن السلم أو هبطنه . هناك ألف جار نظر له بشك أو ألقي عليه التحية . هناك ألف طفل نظر له في حيرة . هناك قط مر بجواره وراح يرمقه 

ليس من المعتاد أن تجد رجلا يقف أمام باب شقة ووجهه للباب , وهو ببنطال البيجامة والفانلة الداخلية .. خاصة إذا كان رجلا وقورا مسنا أشيب 

لابد أن ستة أعوام قد مرت به وهو في هذا الرعب المقيم 

لا يعرف متي ولا كيف سمع خطوات علي السلم , ثم سمع من يغني ( بوس الواوا دح ) .. لا يعرف متــــــــي شعر بيد ابنه وهو يسأله عن سبـــــــب وقوفه هنا :ـ
ـ' الهواء .. المفتاح .. الباب ... 'ـ
لم يفهم الفتي شيئا لكنه علي كل حال فتح الباب بمفتاحه فدخل أبوه .. ووقف ينظر للشقة التي حسب أنه لن يراها بقية حياته 

قال الفتي وهو يطوح بحذائه :ـ
ـ' ما زلت لا أفهم .. لماذا وقفت شبه عار أمام الباب .. هل شعرت بملل لهذا الحد ؟ 'ـ
لكن الأب لم يرد 
عندمــــــا دقــق علاء النظر رأي مشهدا لم يره من قبل قط .. وحسب أنـــه يهــــذي بسبب نـــــور الصالة الخافت 
كان أبوه المسن يرتجف ويبكي 

(تمت)