قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, July 7, 2012

حارس البوابة



نسرين كانت فاتنة الدفعة وحلمها. أنفاسها فراشات تتراقص في ضوء القمر الشاحب. كلماتها قطرات من العطر تنسكب على روحك. عيناها نافذتان ترى من خلالهما لمحة عن الجنة. خطواتها زحف الربيع وسط أراض غمرها الثلج في أصقاع سيبيريا .. عندما ينتهي الزحف سيكون السوسن والنرجس والتيوليب قد ملأ الممرات كلها، وسوف تخرج الغزلان تتواثب. سل أي ذكر شارد في دفعتنا عن سبب شروده .. أو لا تسل . قل هي نسرين ولسوف تكون مصيبًا في 99% من الحالات

 لا تسأل أي شابين يتشاجران في دفعتنا عن سبب الشجار .. يتشاجران بسبب نسرين طبعًا، وكل واحد يتنطع زاعمًا أنها نظرت له وابتسمت .. عندما ترى هذا الفتى المجد ذا النظارة السميكة منهمكًا في تبييض المحاضرات، والعرق يسيل على جبينه، وهو يستعمل القلمين الأخضر والأحمر .. فلا تتعب نفسك .. إنه يبيض المحاضرات من أجل نسرين. سوف يناولها كراس المحاضرات دون أن ينظر في عينيها ويفر ... على الأرجح ستكون هناك قصيدة كتبها في آخر صفحة يشرح فيها كم أنه مولع بغزال غنوج لا يكف عن الفرار وسط الأحراش

سوف يشرح الأستاذ محاضرته ثم يتوقف في لحظة بعينها . هذا بالطبع عندما تقع عيناه على نسرين الجالسة في أول صف. سوف يتلجلج وتتوه منه الأفكار. بعد المحاضرة سوف يناديها ويعرض عليها خدماته .. إذا عجزتِ عن فهم أي شيء فلا تترددي .. تعالي فورًا

يمكن القول بلا مبالغة إن 90% من شباب دفعتنا يمشطون شعورهم أمام المرآة ويحلقون الذقون بسبب نسرين ... يمكن القول إن أي بذلة أو ربطة عنق أو قميص غالي الثمن تم شراؤه ونسرين في البال. كنا في كلية الطب، لهذا يمكن أن أؤكد لك أن المرضى الذين نمر عليهم في العنابر يغدون أفضل وأصح.. لكنهم كذلك يتظاهرون بالمرض أكثر ويئنون حتى تشفق عليهم نسرين

فقط عندما تغيب نسرين نكتشف أنها شمس وأن هناك نجومًا لم نكن نراها .. هناك هالة وهناك ليلى وهناك هيام وهناك نجوى .. إنها تحجبهن جميعًا بوهجها برغم أنهن لسن قبيحات

نسرين كانت الأنثى الخالدة .. وكان عماد هو صاحب البوابة. لم يكن واحد في دفعتنا يجهل أين بيت نسرين، وكنا نمر هناك بلا سبب واضح. فقط نتخيل ما يوجد خلف هذا الباب. بالطبع ليست شقة عادية، بل هناك يقف العبيد ضخام الأجساد يصبون الخمر والرحيق في كئوس من أكمام الأزهار، بينما ترقص العذارى حول الطواويس، والنمور الناعسة تراقب هذا كله، والقيان القادمات من أرض بونت يحركن المراوح حول نسرين. وفي الحلبة يصطرع الليل مع النهار أو يصطرع المحيط مع الصحراء لتسلية سيدة الساحرات .. لابد أن هذا كله بالداخل

اكتشفنا في ذعر أن صاحبنا (عماد) يسكن في ذات البناية ! نهارك أسود !.. أنت تعيش في زانادو شخصيًا ؟.. تنام هناك وتأكل هناك ؟ كان عماد فتى قصيرًا كثير الصخب والضوضاء، كأنه جرو صغير، وكان مولعًا بالتدخل فيما لا يعنيه. ويحب أن يشعر بالأهمية. اكتسب بالطبع أهمية شديدة جدًا، وقد تصرف الجميع معه باعتباره (هرمز) رسول الأوليمب .. هرمز الذي يذهب إلى آلهة الأوليمب ويتكلم مع زيوس ويمزح مع فينوس، ثم ينزل لنا من جديد .. اعتبرناه كذلك حارس البوابة .. إنه المدخل إلى عالمها .. كنا نلتف حوله في شغف .. أحيانًا كان خمسة منا يتبعونه في كل مكان: ـ «هل نسرين تأكل مثلنا ؟.. هل تنام ؟.. هل لها أب وأم ؟» ـ «هل تدخل دورة المياه ؟.. هل ترسل ثيابها للكواء ؟» كان هو يتكلم في ثقة. نعم هي تأكل .. هو متأكد من هذا لأنه رآها ذات مرة وفي يدها شطيرة .. هي كذلك تدخل الحمام. سمع صوت السيفون ذات مرة ... إن حجرتها تقع فوق حجرته .. ـ «يا نهار اسود !.. يا ابن المحظوظة !» ـ

عرفنا كذلك أنها تحب فيروز وأنها تلعب التنس أحيانًا. كان أحيانًا يضع ساقًا على ساق ويقول في غرور: ـ «نسرين مسرورة .. راقت لها تلك المزحة من عصام أمس .. عندما انزلق على السلم وتهشم رأسه .. لقد ضحكت كثيرًا ..» نتصايح .. يا لك من محظوظ يا عصام!.. صحيح أنك في المستشفى وأن فقرات عنقك تهشمت لكن نسرين مسرورة منك. وكيف عرفت هذا يا أخ عماد ؟. يقول في ثقة: ـ «قالت لي هذا بالهاتف .. ظللنا نتكلم نصف ساعة أمس» هكذا نسقط أرضًا ونتلوى غيظًا .. نصف ساعة؟.. تتكلم مع نسرين نصف ساعة؟ بالهاتف؟.. هناك واحد من الدفعة اتصل بها في العاشرة مساء. سمع صوتها تقول (آلو) .. هذا الفتى أصيب ببله مغولي ونوع من الخبال، ويبدو أن أهله يتصلون ببريد أخبار اليوم طلبًا لعلاجه في الخارج على نفقة الدولة

كانت أهمية عماد مطلقة، وبشكل ما كنا نشعر أنه قادم من عالمها .. من رائحتها .. تعرفون قصة الجائع الذي وقف خارج مطعم كباب يلتهم رغيفًا من الخبز. السبب أن الرائحة كانت تكفيه .. حتى جاء اليوم الذي لم يتوقعه أحد قط. لقد لعبت نسرين التنس فسقطت أرضًا وكسرت رجلها .. بالطبع أطلق الجميع الآهات . البعض يبالغ طبعًا فلا تصغوا لذلك السخيف الذي يقترح أن يصير اليوم يوم حداد قومي.. فقط كان على الجميع مواجهة حقيقة أنها لن تجيء لفترة لا بأس بها. سوف تتحول الكلية اللعينة إلى قفر تنعق فيه الغربان.. نظرنا لزميلاتنا فشعر بعضنا بأنهن لم يكن قبيحات لهذا الحد، أما البعض الآخر فشعر بأنهن قبيحات كالأبالسة

مرت الأيام وعماد يلعب دوره كحارس بوابة النعيم. إنها اليوم أفضل .. اليوم تمشي على عكاز .. كمال .. إنها تريد أن تبيض لها محاضرات وظائف الأعضاء التي لم تحضرها.. لا تطلبوا مني شيئًا أيها الفاشلون فوقتي لا يتسع لشيء .. ألا تريد أن ترسم لها كل صفحات كراس علم الأنسجة يا هاني ؟.. لا مشكلة .. سوف أخبرها بذلك .. سوف أقول لها إن هاني يعتذر بشدة لأن وقته أثمن من أن يضيعه في رسم هذا الكراس.. هاني كذلك يقول إنها مهمة شاقة وقذرة، وهو قد رسم الكراس الخاص به بصعوبة .. ... هه ؟.. تقول إنك سترسم ؟.. ليكن .. وأنا لن أخبرها بشيء .. هكذا تمضي الأيام

وفي يوم جاء عماد إلى الكلية فجلس على السور .. عند تلك النافورة الجافة التي تمثل فلاحة مصرية تشوه وجهها. التففنا حوله كالعادة لكنه أشار إلى ثلاثة منا .. كنت أنا منهم .. قال بصوت ثابت جهوري: ـ «أنتم الثلاثة مهتمون بالأدب وتكتبون القصة القصيرة .. أريد الكلام معكم» وقفنا أمامه مرتبكين، فقال لنا : ـ «نسرين رهينة المحبسين كما تعلمون .. محبس الجبس حول ساقها، ومحبس البيت .. تقول إنها تموت سأمًا وطلبت مني أن أجلب لها شيئًا يُقرأ ..» تطوع سامي بأن يحضر لها الإلياذة والأوديسا، أما أنا فوعدت أن أسرق مجموعة نجيب محفوظ كاملة من مكتبة أبي، بينما تطوع حسين بأن يضرب أخاه الصغير في عينه ويسلبه كل مجلدات ميكي التي يملكها .. ـ «لا. لا ..» قالها عماد وأشعل لفافة تبغ .. ثم أردف: ـ «هي لا تريد أعمالاً احترافية .. هي تريد القراءة لكم .. قلت لها إنكم أدباء عظام وهي طلبت أن تقرأ لكم» ثم أعطانا مهلة ثلاثة أيام نقدم له فيها ما نختاره من كتاباتنا

لم أدخل في حياتي أي مسابقة أدبية ولن أفعل، لكن هذه كانت أخطر مسابقة أدبية أدخلها وكان لابد منها. عدت لبيتي ورحت أنقب في أوراقي .. وجدت قصة معقولة عن شباب حاولوا خطف فتاة ثم أنقذها شاب نحيل ضعيف فوقعت في غرامه. جلست في مكتبي ورحت بخط رائع أبيّض هذه القصة .. أتخيل نسرين وهي تقرأ هذه الفقرة أو تلك .. تبتسم هنا .. ترتجف هناك .. تقشعر هنا .. هناك سطور كتبتها خصيصًا كي تراها. نثرت دعابات كي تضحكها .. سوف تقرأ القصة ثم تغمض عينيها .. ترتجف .. يا الله .. ما هذه الروعة ؟.. ثم تفتح الغلاف لتقرأ اسمي. ترفع سماعة الهاتف وتتصل بعماد: لم أكن أعرف أن صديقك بهذا العمق. عندما تفك الجبس سوف تعود للكلية .. سوف تشق طريقها وسط الزحام ووسط المهنئين . إن عينيها تبحثان عني .. في النهاية تجدني فتتجه نحوي وهي ترتجف .. وبعد ذلك ؟ بصراحة لا أعرف .. لندع كل خطوة تحدد الخطوة التالية

هكذا فرغت من القصة، فوضعتها في ملف أنيق وحملتها لعماد صديقي .. في الوقت نفسه كان حسين يسلم إنتاجه للجنة الامتحانات المكونة من عماد. قال لي في غيظ: ـ «أنت لن تربح .. لن يروق لها ما تكتبه .. قصصك سخيفة وسطحية. قرأت قصة لك من قبل» قلت له في ضيق: ـ «أنت لا تستطيع كتابة سطر واحد من دون تسعة أخطاء لغوية قاتلة» ـ «نحن نتكلم عن الأدب وليس هذا امتحان اللغة العربية للثانوية العامة»ـ

بدأ عماد يتسلم الأعمال، بينما قضينا نحن يومين من الحلم .. سوف تبكي .. سوف تتصل بي طالبة الزواج .. سوف تحدد لي موعدًا في مركب نيلي ..سوف تفر من بيت أهلها وتأتي لبيتي ليلاً وتتوسل لي كي نتزوج.. في النهاية استدعانا عماد لمناقشة الأعمال.. ذهبنا لبيته غير مصدقين أننا في ذات البناية التي توجد بها نسرين، وأن قدميها تخطوان على هذه الدرجات عدة مرات كل يوم .. كنا نتشمم الهواء في ذهول .. لابد أن هذه أروع لحظات عاشها عماد في حياته

لسبب ما جاء بصندوق من الورق المقوى مليء بثمار اليوسفي وكان يلبس جلبابًا أبيض، وتربع على مقعد في الصالون وراح يقشر اليوسفي في استمتاع .. ثم بدأ يشد شعر ساقه وهو يقول في غموض وخطورة: ـ «قرأت الأعمال قبل أن أرسلها لنسرين» تبادلنا النظرات .. حسبنا أنها قرأت الأعمال فعلاً.. تبين أنه جعل من نفسه رقابة ترشح ما يصل لها .. قال وهو يأكل اليوسفي: ـ «طبعًا ..في النهاية سوف أكون مسئولاً عن أي عمل خارج أو بذيء يصل لها ..  »ـ

ثم بصق البذور وقال وهو يهرش ساقه المشعرة: ـ «حسين كتب قصة شبه جنسية عن شاب ينفرد بالخادمة في المطبخ... عمل رقيع فاشل .. ولا أخفي أنني كنت أقرأ وأنا أشعر بخجل شديد .. هذه قصة مرفوضة ببساطة» ولوح بالورق بطرفي إصبعيه ثم ألقى به جوار حسين .. لقد ألقى كلمته .. لن تمر هذه القصة عبر البوابة أبدًا .. على كل حال وافقته على هذا القرار. هناك هواية معينة لدى الفتيان هي أن يعرضوا وقاحتهم على الفتيات على سبيل طلقات الاختبار. يريدون معرفة إلى أي مدى يمكن أن تتحمل قبل أن تنفجر

جاء دوري فلوح بقصتي في اشمئزاز: ـ «خطف ومحاولة اغتصاب .. لن أعلق.. » وسقطت القصة ذات رائحة اليوسفي في حجري، ثم أنه أخرج قصة أخرى: ـ «قصة سامي جيدة .. هي عن أب فقد ولده.. لكنها غير متماسكة وحبكتها ضعيفة .. لهذا هي مرفوضة» قال سامي محتجًا: ـ «ظننت أنك تراقب القصص أخلاقيًا ولا دخل لك بالمستوى الفني» ـ «بالعكس .. المستوى الفني مهم جدًا .. قصصكم مرفوضة ولن أقدم لها أي شيء»ـ

رحنا نرمقه وهو يلتهم اليوسفي وبدأت أفهم لماذا يقتل بعض البشر بعضهم .. هذا سهل جدًا .. الصعب هو أن تقاوم ذلك. أعتقد أن تهشيم عنقه كان أحب المناظر لنا نحن الثلاثة وقتها .. عندما اتجهنا للباب كاسفي البال.. استدرت أسأله في أمل أخير: ـ «ممكن أن ألغي مشهد الاغتصاب بالكامل ..» ـ «سوف تضعف القصة دراميًا .. لابد من اغتصاب .. لكن لا يمكن أن أرسل لها قصة تتحدث عن الاغتصاب» نزلنا السلم شاعرين بالمهانة والحيرة والفشل .. فكرت أن أقتل نفسي، ثم وجدت أنه من الأفضل أن أشتري شطيرتين من السجق من عند عواد، مع كوب شاي بالنعناع .. في الصباح سوف أنسى كل شيء.. وهو ما حدث فعلاً!ـ