كل عام وأنت بخير
ثمة احتمال كبير أن تقرأ هذا المقال أول أيام عيد الفطر. يمكننى تخيل صورتك وأنت جالس فى الصالة بالجلباب الأبيض وقد وضعوا جوارك طبق الكعك وكوب الشاى.. بينما أطفال الأسرة يصخبون ويجرون فتشتمهم فى عدم تركيز وتواصل القراءة. تطالع المقال ثم تغمغم فى قرف:ـ
ـ«لم يعودوا يعرفون كيف يكتبون هذه الأيام.. كلهم لم يحصلوا على الابتدائية كما يبدو!»ـ
وهى ملاحظة قاسية أتقبلها أنا بصدر رحب لأننا فى العيد. لا بد أنك ذهبت بعد الفجر إلى الصلاة، وجلست هناك فى ساحة المسجد تردد مع المرددين: «الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله».. كان هذا المقطع أطول فى الماضى، ويتضمن جزءا شجيا يقول: «صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده»، لكن تم حذف هذا الجزء، وبالتالى صار الإنشاد أقصر وأكثر إلحاحًا
أنسام الصباح الوليد الرطبة الشجية تداعب أنفك فتشعرك بانتعاش غريب. هذا رمضان آخر قد مر، ولا يعلم سوى الله هل نصوم رمضان آخر أم لا
فى طريق العودة تبتاع الصحف التى تفوح منها رائحة الحبر، ولربما صادفت بائع خبز متحمسا تبتاع منه بضعة أرغفة، ثم تعود إلى الدار التى ستتحول إلى (مضيفة) بعد ساعات
هل أنت من تلك الأسر التى تصر على تناول البقول (فاصوليا أو بازلاء) أول أيام العيد؟… عادة فرعونية أكيدة لم يفقدها المصريون.. أم أنت من الأسر التى تصر على تناول الفسيخ؟.. عادة فرعونية أخرى لا تفسير لها.. على كل حال الترمس عامل مشترك دائم بين القبيلتين
تبدأ الانفجارات فى الشارع. العيال يفرقعون البمب، ويشربون تلك المشروبات الخضراء الغامضة ويركبون الدراجات ليتأكدوا من أنك ستمضى أول أيام العيد معهم فى عنبر الكسور.. ما زالت الشوارع خالية والشمس حارقة، لكنك ترى الشباب القادمين من الأرياف لزيارة طنطا -باعتبار طنطا مدينة الجن والملائكة وعاصمة النور- فيتحول الشارع إلى ملحمة من اللون الوردى واللبنى والأخضر الفسفورى والأصفر الإسهالى.. ورغم هذا النشاز فأنت تشعر بفرح
لكن الجحيم الحقيقى سيبدأ فى المساء.. لا أنصحك بالخروج أبدا لأن الجميع سيفعلون هذا
شد ما تبدل المشهد عن العام الماضى.. تصور عناوين الصحف وما كان يشغل بالنا منذ عام، واليوم تغير كل شىء
لم يعد هناك مبارك.. لم يعد هناك شفيق.. توفى عمر سليمان إلى رحمة الله.. أطال الله عمر المشير وسامى عنان لكنهما اختفيا من الصورة تمامًا بضربة بارعة من محمد مرسى.. منذ عام لم يكن أكثر الناس قد سمعوا عن محمد مرسى وعشرات الوجوه المرتبطة بالإخوان أو المعادية للإخوان.. ولم يكن أحد قد سمع عن السيسى.. قُتل القذافى ورحل عبد الله صالح
رغم كل شىء ورغم انهيار الكثير من الخدمات الأساسية، فإن المرء يتذكر التعبير الذى استعمله فوكوياما: عندما بدأت الهجرة للغرب فى أمريكا، ضاعت عربات كثيرة جدا وانقلب بعضها وأحرق الهنود بعضها.. لكن عندما تقف هناك عند الساحل الغربى فى النهاية وتنظر، فأنت تتوصل إلى نتيجة نهائية هى محصلة هذا كله: هناك هجرة للغرب لا شك فيها.. كان فوكوياما يتكلم عن التطور نحو الرأسمالية، لكننا نستطيع القياس بالطريقة ذاتها لنقول إن هناك تحسنا لا شك فيه.. بالتأكيد نحن على بداية الطريق الصحيح مهما قيل ومهما تفرقت السبل، ومهما اعتبر البعض أن الثورة قد فشلت أو سحقت
لو نظرنا إلى الشرق نحو دولة عربية حبيبة هى سوريا، لوجدنا ولادة متعسرة فعلا مع وضع شديد الالتباس.. هناك طاغية لا يتورع عن ذبح أفراد شعبه، والطريقة الوحيدة لإزاحة هذا الطاغية هى التدخل العسكرى على ما يبدو، وهذا يهدد باحتلال بلد عربى بالغ الأهمية ليتحول إلى العراق أو يتفتت
صديقى المقيم فى حلب يمطرنى بسيل من الرسائل يصف بها الوضع بالغ القسوة. بالتأكيد ليست الحياة فى مصر جنة.. إنها قاسية فعلا، لكن على الأقل لن يقتحم الشبيحة بيتك ليذبحوا أسرتك.. ولن تنهمر طلقات المدفعية فوق سطح بنايتك
يقول صديقى: «لا أعرف فى ما إذا كان انقطاع التيار الكهربائى مبرمجا عندكم، ولكنه كذلك عندنا، كل مناطق حلب تنقطع عنها الكهرباء ما يقارب 4-5 ساعات يوميا.. لا أعرف لماذا أحببت أن أكتب لك، لكننى أشعر بأننى قد لا أتمكن من التواصل معك قريبا.. يبدو لى أن هناك أياما سوداء بانتظارنا… بصراحة يا دكتور فإن الأمور تتدهور بشكل مضطرد، والمربع الآمن يضيق يوما بعد يوم.. أكتب إليك الرسالة وأصوات القصف تتردد بشكل كبير وقريب، أقرب من أى يوم مضى..»ـ
فى ذلك الوقت لم تكن قوات بشار قد دخلت حى صلاح الدين.. يقول: « قمت اليوم بجولة بالسيارة فى حى صلاح الدين.. صدقنى يا دكتور الأمر يشبه دخولك إلى دولة أخرى.. حى صلاح الدين من الأحياء ذات التعداد السكانى الكثيف.. مسلحون تابعون للجيش الحر ينتشرون فى كل مكان. أعلام الثورة السورية واضحة للعيان.. شاهدت مدرسة وقد تم تغيير اسمها لتحمل اسم أحد شهداء الثورة.. هناك شعور عام بأن الحرب قادمة وأن الحل السلمى لم يعد مجديا.. دعك من إيمان خفى بأن الجيش الحر هو من قد يحسم الأمور، فلا العرب ولا العالم أثبت أنه قادر على إنهاء الأمور.. سأقوم اليوم بعمليات تموين للخبز والأرز والجبن… المياه تقطع 9 ساعات يوميا… اليوم نصحت الخارجية الروسية رعاياها بعدم الذهاب إلى سوريا.. أنباء عن إغلاق الحدود السورية اللبنانية.. البارحة تردد من على مآذن حى صلاح الدين حديث عن تسميم مياه الشرب فى حلب… اختفاء غامض أؤكده بنفسى لعناصر شرطة المرور!! البنزين غير موجود.. والمازوت كذلك… القناصة تم نشرهم على المبانى المحيطة بساحة سعد الله (ساحة حلب الرئيسية)، والشبيحة منتشرون بشكل كبير فيها.. أكثر من 30 قذيفة تردد صوتها وأنا أكتب هذه الرسالة.. سكان أحياء صلاح الدين وسيف الدولة قد نزحوا إلى مناطق أخرى والكثير منهم افترش الحدائق العامة! هل جربت أن تقضى رمضان فى الحديقة العامة ودرجة الحرارة تقترب من الأربعين؟!… البارحة تردد صوت إطلاق الرصاص فى حى الشهباء، خالى كان يصلي التراويح هناك، مع انتهاء الصلاة بدأ دوى الرصاص، فعاد خالى -ابن الستين- جريًا إلى منزله… حديث عن سحب قوات من إدلب وتحويلها إلى حلب، وأخرى من الجولان إلى دمشق.. أتوقع أن تزداد الأمور تدهورا فى الأيام القادمة، قد يتوقف الإنترنت والكهرباء تماما… تمن لنا الأفضل، ولا تنس أنه كان هناك يوما بلد عربى اسمه سوريا وأن هناك شابا حلبيا أحب كتاباتك وتعلم عن طريقك الكثير..»ـ
رسائل قاسية فعلاً.. تشعرك بالعجز.. وتشعرك بالمقت والاشمئزاز من الطاغية الذى نبذه شعبه فأصر على أن يبيد هذا الشعب.. هل يساوى العرش حقًّا قطرات من دماء طفل سورى؟.. لم يكن الخلاص من مبارك سهلاً.. بالواقع أعتقد أننا لم نتخلص منه بعد، لكن بشار الأسد أقرب إلى سيف طويل مغروس بالكامل فى قلب سوريا وانتزاعه بطىء وأليم ودامٍ.. والمشكلة أن هذا فعل خطر قد يجعل الدماء تنفجر فى وجوه الجميع
أدعو الله أن يحفظ سوريا.. وأن يمنح أبناءها الشجاعة والصبر.. ولن أجرؤ طبعا على أن أقول (عيد سعيد)، فلها مذاق مرير قاس بعد هذا كله