فى فترة قصيرة لا تتجاوز يومين، قرأت في الصحف خبرين عجيبين يثيران الكثير من الأسئلة والخواطر السلبية.
الخبر الأول: يتكلم عن طالبة صغيرة اكتشفت علاجًا لفيروس سي. يقول العنوان إن التكلفة تتلاشى تليف الكبد (يعنى إيه؟)، وقيل للطالبة (بحثك هيتحقق بمصر كمان تلاتلاف سنة). ما معنى هذه الجملة الأخيرة؟ هل يعني أن البحث سيتقدم بمصر ثلاثة آلاف سنة؟ أم يعني أنه لن يتحقق إلا بعد ثلاثة آلاف سنة؟ هذا يؤكد ما أعتقده دائمًا من أن اللغة تعكس طريقة التفكير، والشخص مرتب الفكر يتكلم لغة جيدة سليمة واضحة المعانى.
يقول الخبر الغريب إن فكرة العلاج التى ابتكرتها الطالبة تعتمد على عمل هندسة وراثية للخلايا (الجزعية). والله العظيم أعرف أنها بالذال (جذعية) وليست بالزاى، لكن دعنا نتجاهل هذا. من خلال إفراز كمية إضافية من الإنترفيرون الطبيعى، لافتة إلى أن الإنترفيرون يفرز طبيعيًا من الخلايا المناعية بالجسم، والتى تمنع تكاثر الفيروس وتحمي الخلايا من دخولها، ولكن يفرز بكميات قليلة بالنسبة لفيروس سى، والتى يتم تزويدها بالحقن.
وأضافت الطالبة أنها لن تستخدم فى علاجها (أناميد مودن) أو حيوانات. لاحظ أنها تتكلم عن (أنيمال موديل) أو (نموذج حيواني) لكن محرر الخبر يعرف الإنجليزية على طريقة الترجمانات فقط معتمدًا على السماع. قالت الطالبة إن العلاج سيتم من خلال استخلاص الإنترفيرون من كرات الدم البيضاء بالفرد المصاب، ويتم استخلاص الخلايا (الجزعية) من نخاع العظام من المريض نفسه، حتى يتم التوصل إلى التوافق بنفس الجينات ولا يرفضها الجسم، ثم يتم بعد ذلك وضع الإنترفيرون فى الخلايا (الجزعية) المتواجدة بالجسم. الخلايا (الجزعية) يتم تحويلها إلى خلايا كبد ثم يتم وضعها فى مكان الخلايا التالفة بسبب الفيروس، لافتة إلى أنه حينما يحاول (الفيرس) مهاجمة الكبد مرة أخرى يتم التصدى له من خلال إفراز كميات إضافية من الإنترفيرون ضده.
واستطردت الطالبة: لم أستطع التواصل مع أى مستثمرين، وحينما عدت إلى مصر هناك من سخر مني، وهناك من قال إمكانياتك مش فى مصر، وبحثك ده خيال وممكن يتحقق كمان 3 آلاف سنة، مضيفة أحاول الآن التواصل مع المسئولين عن البحث العلمى فى مصر، لكنى لم أستطع ذلك حتى الآن.
هل فهمت شيئًا من هذا الاكتشاف؟لا يوجد منطق علمى ولا شىء، ومن الواضح أنها لا تعرف الكثير عن الخلايا الجذعية ولا الفيروس سى ولا الإنترفيرون. هذا كلام يبدو مقنعًا، لكن لو دققت في المنطق لوجدت أنه تهاويم خيالية لا تمت للعلم بصلة، على طريقة جلسات المقاهي: ممكن بقى نعصر السحاب نطلع منه مية نستصلح بها الصحراء. نهارنا عسل بإذن الله. الغريب أن معظم التعليقات في الصفحة تشيد بهذا الكشف العظيم الذي سيذهل العالم، وتشتم المسئولين متحجري الفكر في مصر.
للمرة الألف أكرر فقرة لي من مقال قديم:
هناك افتراض مصري راسخ وساذج أن المصري عبقرى لكن ليست لديه إمكانيات، بينما الألمان واليابانيون أغبياء، لكن لديهم الكثير من المال. الحقيقة أن المصري ليس أذكى من الأجناس الأخرى وليس أغبى، لكن نظم التعليم الفاسدة تؤذيه جدًا. يعلن أحدهم عن كشف غامض، ثم يسرع ليتوارى خلف جدار حصين. الجدار عبارة عن مقولات نسمعها كل يوم (لن نتقدم أبدًا لأن النفوس وحشة ونحن نحقد على بعض)، (عندنا العلم كله بس يا خسارة)، (المصرى لا يجيد سوى هدم المصري)، (الشركات العملاقة يهمها ألا تظهر هذه الحلول الرخيصة). وراء هذا الجدار ظهر ألف علاج للسرطان وألف علاج للسكري وألف علاج للالتهاب سى، والويل لمن يجرؤ على التشكك أو يدعو للتعقل. إنه حاقد ومن حزب أعداء النجاح، ولا يجيد سوى الهدم. فقط يتكفل الزمن بأن يكشف الحقيقة بعد ما يكون الناس قد أنفقوا الملايين وأحرقوا جبالاً من الأحلام.
لا كرامة لنبى فى وطنه، لكن كل الكرامة والمجد والمال والشهرة لمدعى النبوة في وطنه.
لا يمكن أن نتهم الصحفي طيلة الوقت، فهو في النهاية غير متخصص، لكن كان بوسعه أن يسأل المتخصصين. لو وجدت بحثًا هندسيًا يتكلم عن جهاز يستخدم آشعة جاما لتخويش اللدائن البوليمرية باستعمال الدرفلة من دون البثق والتفريز، فإننى لن أكذّب ولن أنبهر. سوف آخذ رأي مهندس قبل أن أكتب حرفًا. لو كنت أنت مهندس وتجد كلامي هذا فارغًا، فإن بوسعك أن تفهم شعوري عندما أقرأ عن الخلايا الجذعية التى سنزيد إنتاجها من الإنترفيرون، كأن هذه النقطة فاتت مختبرات الشركات العملاقة الساهرة من أجل فيروس سي في ألمانيا وأمريكا وفرنسا وانجلترا. بالطبع سوف أستبعد وجود قدر من مجاملة الطالبة بنشر هذا الخبر، لأنها قريبة الصحفى أو ابنة صديق عمره.
سوف نتجاهل هذا الخبر إذن ونتجاهل الـ(أناميد مودن)، وننتقل في المقال القادم لخبر عجيب آخر نشر فى جريدة محترمة