تكلمنا في المقال السابق عن حرب الأفكار، وقلت إن التأثُّر بتيمة قصصية معينة ليس سرقة أو اقتباسًا. هناك سرقة فعلية، وهناك اقتباس، وهناك تأثُّر، وهناك استيحاء … في المقال القادم نناقش — إن شاء الله — أنواع السرقات أو الاقتباسات كما فصَّلها أسامة بن منقذ في كتاب «البديع في نقد الشعر»، وحتى لا نتورط في الخطأ نفسه أقول: إنني لم أجد الكتاب، لكن سأعرض ملخصًا جيدًا له قدَّمه أحد اللغويين، وقد أفادني كثيرًا.
اليوم سوف أعرض عليك كتاب محمود قاسم الممتع «الاقتباس في السينما المصرية»، ونسخته التي أملكها صدرت عام ٢٠٠٢ من مكتبة الأسرة، وهي الطبعة الرابعة. منذ البداية يخبرنا المؤلف أن هذا الكتاب سبَّبَ له متاعِبَ جَمَّةً، وصلت للتهديد في أحيان كثيرة. إن السينما المصرية ليست مصرية تمامًا؛ ومن هنا تبرز أهمية علم السينما المقارنة. إن ارتباط السينما بالأدب ارتباط قوي ودائم، لكن كل مخرج يلوِّن الفيلم بطابعه الخاص، حتى ظهر الإبداع السينمائي المستقل في سينما المؤلف، ثم صارت السينما تقتبس من نفسها كما رأينا في إعادة Remake الأفلام.
ظاهرة الاقتباس adaptation قد تعني معالجة سينمائية عن رواية، أو الاستيلاء على نصوص كتبها آخرون، وقد تلحق باللفظة اسم البلد المقتبس كأن تقول إن «شمس الزناتي» تمصير ﻟ «الساموراي السبعة» لكيروساوا، أو أن «العظماء السبعة» أمرَكة لنفس القصة. السينما بطبعها تُعلي من مفهوم الحكي؛ لهذا يَثبُ شكسبير إلى قمة مَن يُحبُّ السينمائيون الاقتباس منهم، ولكن تظل الأفلام المأخوذة عن قصصه أقلَّ قيمة من القصص نفسها بكثير. والسينما عاجزة تمامًا عن تقديم أعمال كُتَّاب اللارواية Antiroman مثل أعمال آلان روب جرييه.
لم تجد السينما المصرية في بدايتها أعمالًا كثيرة تقدمها؛ لأن الفن الروائي لم يكن متطورًا، لذا لجأت إلى أن تنهل من الأفلام والروايات الأجنبية. وبالطبع اختارت أفلامًا لاقت نجاحًا بلغاتها الأخرى. عندما نجحت الفواجع الفرنسية اتَّجَهت السينما المصرية لهذا الكَنز، وعندما راجت الأفلام الاستعراضية اتجهت لها السينما المصرية. حتى على مستوى الممثلين، ظهر فالنتينو فظهر عندنا بدر لاما، ظهر فرناندل فظهر عندنا إسماعيل يس، ظهر تايرون باور فظهر عندنا أنور وجدي، ظهرت شيرلي تمبل فجاءت فيروز. هناك أفلام مصرية يصعب أن تعرف مصدرها بالضبط؛ مثل: فيلم «الشيطان امرأة» لنيازي مصطفى، و«امرأة بلا قيد» لبركات، هل هما مأخوذان عن فيلم «كارمن»، أم عن رواية «ميريميه»، أم «أوبرا بيزيه»؟ هناك أفلام يتم الاقتباس فيها من عدة مصادر لتكوين خليط واحد. يبدأ محمود قاسم في تقسيم الاقتباس حسب جنسية الفيلم الذي تم الاقتباس منه:
المصادر الأمريكية
هنا تقتبس السينما المصرية أفلامًا أمريكية، لكنها لم تحاول قراءة الأدب الأمريكي نفسه. لا تكاد السينما الأمريكية تعرض فيلم «زهرة الصبار» عام ١٩٦٨ حتى تقدم مصر بعدها بعام واحد فيلم «نصف ساعة زواج». فيلم «عجايب يا زمن» ١٩٧٤ مأخوذ عن فيلم «شرق عدن» عن قصة جون شتاينبيك، فلَمْ يتناول سوى الخيط السطحي عن تفضيل الأب لابن له عن الآخر، واقتبس من الفيلم ولم يقترب من الرواية. رواية «عناقيد الغضب» لشتاينبيك صالحة للاقتباس بشدة لتدور في عوالم عمال التراحيل، لكن السينما المصرية لا تهتم برواية رائعة كتلك. اقتبست السينما المصرية «قصة الحي الغربي» و«صوت الموسيقا» في فيلمي «قصة الحي الغربي» و«حب أحلى من الحب»، لكنها لم تستطع تقديم الأغاني المبهرة والاستعراضات. هناك فيلم مأخوذ عن فيلم «عودة الأسير» هو فيلم «الماضي المجهول» لأحمد سالم … الجندي الذي يفقد ذاكرته فيترك امرأته ليحب امرأة أخرى. فيلم «إيرما الغانية» يتحول لفيلم «خمسة باب»، فيلم «لا تتزوج امرأة» يتحول إلى «صغيرة على الحب»؛ حيث شيرلي ماكلين تتظاهر بأنها طفلة لتظفَر ببطولة استعراض. قصة فيلم «مولد نجمة» تحولت في السينما المصرية إلى «ليلة بكى فيها القمر». عادل إمام قدَّم الكثير من الأدوار التي قدَّمها ممثلون كوميديون أمريكان. فيلم «البحث عن فضيحة» مأخوذ من فيلم «دليل الرجل المتزوج» لجين كيلي. فيلم «مرح مع ديك وجين» تم نقله بالحرف إلى «عصابة حمادة وتوتو». وبالطبع فيلم «حافية في الحديقة» صار «خلي بالك من جيرانك». هناك فيلم كوميدي لطيف هو «عالم عيال عيال» لسميرة أحمد تم أخذه من فيلم «أولادي أولادك أولادنا» لملفين شافلسون، فيلم «الشقة» لبيلي وايلدر تحوَّل إلى «أزمة سكن» و«شقة مفروشة»، فيلم «واحدة بواحدة» (الفنكوش) مأخوذ عن فيلم «يا حبيبي عُدْ لي ثانية» … كما قلنا فالسينما المصرية لا تقتبس من رواية، بل من الفيلم نفسه؛ لذا فإن فيلم «غريب في بيتي» مقتبس عن فيلم «فتاة الوداع» لهربرت روس، وليس عن المسرحية الأصلية. فيلم «إذا كنت لصًّا» الذي قدم عام ١٩٦٥ تحوَّل إلى فيلمين متشابهين في نفس الفترة؛ هما: «المشبوه» و«اللصوص». الأمثلة كثيرة ولا حصر لها؛ لذا نكتفي وننتقل إلى …
المصادر الفرنسية
هنا أقْبَلَ الفنانون المصريون على الأدب الفرنسي يقتبسون قصصًا لا أهمية أدبية لها، ولم تهتم السينما العالمية بصنع أفلام منها. اعتمدت السينما المصرية على هنري مرجيه، وجول ماري، وجورج أونيه، ودوري دوجوفيه. مثلًا رواية «ملك الحديد» لجورج أونيه هي قصة الرجل الذي يعرف ليلة الزفاف أن زوجته تحب رجلًا آخر، فيتفق معها على أن يعيشا كصديقين إلى أن يتم الطلاق. من الغريب أن هناك قصة قصيرة لتوفيق الحكيم اسمها «ليلة الزفاف» مقتبسة من نفس الرواية. سرعان ما نجد أربعة أمثلة في السينما منها: «قلب امرأة»، و«ارحم دموعي»، و«ليلة الزفاف»، و«حب وكبرياء». هناك رواية أخرى لنفس المؤلف عن ثريٍّ تزوج امرأة يحبها ثم أهملها باعتبارها من ممتلكاته. هذه الرواية تحوَّلت إلى فيلم «حكايتي مع الزمان» لحسن الإمام. رواية «كارمن» مثلًا موضوع مفضل دائم التكرار في السينما المصرية … رجل الشرطة الذي يقع في حب فتاة غجرية جامحة. قلت من قبل إن رواية جيدة لإميل زولا هي «تريزا راكان» كنز آخر للسينمائيين، رأيناه في أفلام مثل: «لك يوم يا ظالم»، و«المجرم»، و«الوحش في الإنسان»؛ أول فيلمين أخرجهما صلاح أبو سيف. بالطبع كان اقتباس صلاح أبو سيف هو الأفضل والأبرع، حتى إن القصة بدت مصرية تمامًا. قلنا كذلك إن «الكونت دي مونت كريستو» و«غادة الكاميليا» قُدِّمَتَا مرارًا. «البؤساء» قصة فكتور هوجو وجدت طريقها للسينما المصرية في فيلمين شهيرين بنفس الاسم؛ أحدهما عام ١٩٤٣، ثم عام ١٩٧٨.
هناك مسرحية شهيرة اسمها «فاني» للكاتب مارسيل بانيول، وهي تدور حول الفتاة التي تحمل من شاب عابث يتركها ويفر، فيقبل شيخ أن يتزوجها ويهب الطفل اسمه. كم مرة رأيت هذه الحبكة! «ليلة ممطرة» لتوجو مزراحي عام ١٩٣٩، «شاطئ الذكريات» عز الدين ذو الفقار، «توحيدة» عام ١٩٧٥، «نغم في حياتي» فيلم فريد الأطرش الشهير. طبعًا فيلم «سلام يا صاحبي» مأخوذ عن فيلم آلان ديلون الشهير «بورسالينو» و…
ينتقل الكتاب بعد هذا إلى الاقتباس من السينما والرواية البريطانيتين مع قصص شكسبير، وإميلي برونتي، وتشارلز ديكنز، وأوسكار وايلد. بعد هذا ينتقل إلى الأدب الروسي والألماني. لا يتسع المجال لذكر كل الأمثلة طبعًا.
وحتى يريحك المؤلف في النهاية، فإنه يقدم لك فيلموجرافيا من عام ١٩٣٣ إلى عام ٢٠٠٢، يذكر فيها الفيلم المصري مع أصله، من أول فيلم «أولاد الذوات» ليوسف وهبي عن المسرحية الفرنسية «الذبائح» عام ١٩٣٣، حتى «الرغبة» لعلي بدرخان عن مسرحية «رغبة تحت شجرة الدردار» لتنيسي ويليامز عام ٢٠٠٢.
هذا كتاب جدير بالاقتناء بلا شك