قصة رائعة من قصص تشيكوف – وكل قصص تشيكوف روائع – يعرفها كل من اهتم بفن القصة القصيرة يومًا. العريف أخميلوف يمشي في السوق وفجأة يسمع صوت صراخ .. هناك رجل يصيح:
ـ هكذا تريد أن تعضّنى أيها الكلب الملعون. هذا زمان ما عادت للكلاب فيه حرّية عض الآخرين ..آه !..
ثمة رجل يطارد كلبًا أعرج فينجح فى النهاية فى أن يقبض عليه من قائمتيه الخلفيتين.. الرجل سكير معروف، بينما الكلب يرتجف فى رعب كذلك الكلب الذى ذبحه الناس هنا منذ أسبوعين. يقول السكير إنه كان يجول فى الغابة عندما هاجمه الكلب وعضه وهو يطالب بتعويض بشدة ..
يتحرك الحس الأمنى لدى العريف أخميلوف ويصمم على معاقبة صاحب الكلب المهمل. هذا الكلب يجب أن يقتل لأنه مسعور على الأرجح. هنا يصيح أحد الواقفين:
ـ يبدو أن الكلب يخص الجنرال بيجالوف!
هنا يتوقف العريف ويتصبب عرقًا .. ينزع معطفه .. ثم ينظر للسكير ويسأله:
ـ كيف عضك الكلب أصلاً يا سيد؟.. أنت فعلت هذا بنفسك من أجل المال !
ويوشك على تحرير محضر للسكير الذى لابد أنه لسع الكلب بسيجارته فعضه. هنا يرى أحد رجال الشرطة أن هذا ليس كلب الجنرال بتاتًا.. فيصيح العريف:
ـ معقول .. كلب الجنرال غالى الثمن وليس أجرب مثل هذا .. لابد من إعدامه فورًا
هنا ينبرى أحد الواقفين ليقول إن الكلب كلب الجنرال .. هكذا يتوتر العريف ويكرر إن هذا كلب ثمين ومن الحرام تركه فى الشارع ليطفئ العابرون السجائر فى أنفه .. يصل طباخ الجنرال فيسأله إن كان الكلب كلبهم فيقول الطباخ إنه لا يخصهم .. يقرر العريف أن يعدم الكلب، لكن الطباخ يواصل الكلام: هذا فى الواقع كلب أخى الجنرال !
هنا يتهلل وجه العريف .. إذن فأخو الجنرال يزور المدينة .. هذا خبر عظيم. ويشير إلى السكير فى غضب ويصيح:
ـ هذا وغد شرير .. بينما أنت أيها الكلب الصغير لم تقترف أى خطأ
ثم يحكم المعطف حول خصره وينصرف من السوق، يلحق به الشرطى الذى يحمل الفاكهة المصادرة. هكذا تنتهى القصة التى صنع منها تشيكوف سوطًا يجلد المنافقين فى كل زمان ومكان. هناك مثل شعبى مصرى ينتمى لنفس العالم، هو: عندما مات كلب العمدة ذهبت القرية كلها للعزاء، وعندما مات العمدة لم يذهب أحد . النفاق يقضي بأن تعزي الطرف القوى، فإذا رحل فليذهب بالسلامة..
من ألوان النفاق المشهورة والمطروقة جيدًا، أن تقدس المسئولين الذين هم فى السلطة، ثم تكيل لهم السباب والإهانات إذا رحلوا، وقد بدا هذا واضحًا بعد إقالة وزير الداخلية محمد إبراهيم. أنا أختلف مع الرجل للصبح، وثلاثة أرباع مقالاتى هنا كانت انتقادًا لشراسة الداخلية فى عصره، لكني أذكر كيف كانوا يتعاملون معه بتقديس وكيف كانت صورته دائمًا رابع أربعة مع ناصر والسادات والسيسي، وكل الكلام إياه عن رسل الله الذين لا نعلمهم .. إلخ ... حتى شعرت أنهم سيحيطون رأسه بهالة كقديس ..
فجأة أبعد الرجل .. فلم يتردد السادة الإعلاميون (الأخميلوفات) فى أداء دورهم الذى حفظوه جيدًا .. إنها طبيعتهم ولن تتغير .. وخلال أربع وعشرين ساعة راحوا يتكلمون عن أخطاء الرجل وفشله فى السيطرة على الإرهاب، واتهمه أحدهم بأنه ذو ميول إخوانية واضحة وأنه طابور خامس!.. الرجل الذى قاد مهمة التنكيل بالإخوان وفض اعتصام رابعة صار إخوانيًا فجأة ! واضح أن المصرى الوحيد الذى لا ينتمى للإخوان هو توفيق عكاشة.
كما قلت أنا لا أحمل حبًا مفقودًا للرجل، لكنى أحب الثبات على المبدأ، ما لم تتأكد من أنك كنت على خطأ طبعًا. وكنت أتوقع ممن ألّهوا الرجل فى السابق أن يشكروه على جهوده ليثبتوا أنهم خصوم شرفاء ..
حدث شيء مماثل مع كل وزير داخلية أبعد فى تاريخ مصر. أذكر تقديس وسائل الإعلام للواء الألفى وزير الداخلية أيام مبارك، فلما وقعت حادثة الأقصر الشنيعة وبعد صيحة مبارك الشهيرة: خطتكم تهريج ، ظهرت صورته على معظم الصحف مع عبارة الألفى والتهريج الأمني . ليس هذا لأنهم أفاقوا بل لأنهم (أخميلوفات)، ولو لم يشتم مبارك الألفى لراحوا يمتدحون جهوده فى مقاومة الإرهاب.
بالتأكيد رفضت هجوم د. لميس جابر الشرس على ثورة يناير، لكني احترمت ثباتها .. فهى لم تحن رأسها للعواصف، لتتكلم عن ثورة يناير المجيدة، إلى أن تمر العاصفة فتنهض لتشتم الشباب الذين قاموا بها، وتتهمهم بالعمالة للغرب، وتتكلم عن نكسة يناير .. إلخ .. لقد رفضت منذ البداية وظلت كذلك .. هذا موقف أختلف معه لكنه شريف لا يخلو من فروسية.
من ضمن السلوك الأخميلوفى الذى يثير غيظى أن يصطدم شيء بمصلحتك فتغير قناعاتك بالكامل. كان لدى برنارد شو خادم شيوعى متحمس .. تعرف أن شو كان مهتمًا بالاشتراكية الفابية التى تدعو للتغيير التدريجى، لكن الخادم كان راديكاليًا متعصبًا، وكان يحضر اجتماعات الشيوعيين فى حماس. فجأة توقف عن حضور الاجتماعات فسأله شو عن السبب .. قال الخادم:
ـ لأنهم سيحددون ثروة الفرد بثلاثة آلاف جنيه
سأله برنارد شو عن المشكلة فقال الخادم:
ـ مدخراتي ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه !
هكذا كنت أتابع مقالات كاتبة متحمسة جدًا للنظام وللسيسي لدرجة أنها تغازله بوضوح، وقد اقترحت الكاتبة على السيسي فى لحظة حماسة أن يعدم قيادات الاخوان فى السجون بلا محاكمة، فالحوادث تقع ومن الممكن أن يقع لهؤلاء حادث أليم و(تاهت ولقيناها). كتبت هذا الكلام الإجرامى فعلاً فلم يحاسبها أحد. كل هذا جميل ويخبرك بالمعسكر الذى تنتمي له، لكن يحدث فى يوم أسود أن يوقفها ضابط مرور وهى ذاهبة للعمل، ويأخذ رخصتها .. تخبره بهويتها فلا يهتم. هكذا تعود للبيت غاضبة جدًا وتكتب مقالاً مهددة السيسى أنه لو لم يصلح وزارة الداخلية خلال أربع وعشرين ساعة فلسوف تحدث ثورة لا تبقى ولا تذر!... اندهشت جدًا من أنها صارت من عتاة المعارضين وأكثرهم جرأة لمجرد أن ضابطًا أخذ رخصتها، ثم تذكرت قصة تشيكوف البديعة!.. إن لفظة (أخميلوفات) تلخص كل شيء!