بصراحة لم أجد ما أكتبه الأسبوع الماضى؛ لأن مشهد ذبح 21 مصريا مرة واحدة ليغرق البحر المتوسط بدمهم فاق كوابيسى كلها.. لم أحاول مشاهدته طبعا، ولكنى شعرت أن الكلمات لا جدوى منها.. بل إنها تهين مشاعر أهل هؤلاء البؤساء الذين ذهبوا سعيا وراء الرزق، فكان أن رآهم إخوتهم وأبناؤهم وأمهاتهم وهم يُذبحون.
كل ما يمكن قوله لا معنى له.. لقد ذُبح كل واحد منا على ضفاف ذلك البحر وولى الشعور بالأمان للأبد، حتى أن المرء بدأ يشك فى جوهر الإنسان نفسه. الأمر واضح للجميع هذه المرة.. لا أهتم كثيرا بطرح أسئلة من طراز أن هذا لم يتم على البحر أصلا بل أمام شاشة كروما، أو أن أجساد السفاحين متماثلة فارعة توحى برجال بلاك ووتر، أو أن الضحايا لا يقاومون.. فكل هذا لا يعنينى.. لقد تم الذبح وخلاص. لا شك أن هناك جهاز مخابرات قويا يرتب هذا كله، وهو يصب فى مصلحة دولة واحدة، يهمها أن يتحول المحيط العربى من حولها إلى ذئاب تمزق بعضها لتضمن أمنها مائة عام أخرى. والنتيجة كارثية على الإسلام.. لقد تلقيت الكثير من خطابات الشباب الذين غمرهم الاكتئاب يقولون بالحرف إنه إذا كان هذا هو الدين فلا لزوم له أصلا. من المستفيد من هذا؟ داعش دعوة مستمرة للإلحاد ولا أعتقد انهم مجرد متطرفين حمقى..
هؤلاء يعرفون ما يفعلون. لو كانت لهذا الحادث نتيجة إيجابية ما، فهى أن لفظتي مسلم ومسيحى ذابتا، ورأيت الدموع فى عيون الجميع.. لقد شعر الجميع بالخطر، وبالتأكيد رأى كل واحد منا أخاه أو ابنه مقيدا على ذلك الشط فى تلك البذلة البرتقالية اللعينة، ولم يكرر الإعلام نفس الاسطوانة و(هؤلاء ليسوا مسلمين).. إلخ.. الأمر أخطر من هذه الحفلات الإعلامية.
عندما وقعت أحداث سبتمبر اتخذ بوش الابن قراره بمهاجمة القاعدة فى أفغانستان، ولم يستطع أحد فى العالم أن يجادله لأن الحادث المروع كان حجة فى حد ذاتها، وقد قال له بوش الأب: لا يجب أن تبدو عاجزا.. تصرف بسرعة . بالمثل لم يكن هناك بديل أمام الحكومة سوى قصف معاقل داعش التى نفترض أن الاستخبارات الحربية تعرفها جيدا.. لا توجد حكومة يذبح أبناؤها كالشياه وتطلب حلا تربويا دينيا سياسيا، مهما كانت المزايدات من الجالسين على الشط أو فى الماء البارد، وقد قيل نفس الكلام عن الأردن بعد حرق الطيار.. فقط كنا نأمل أن تتأنى الضربة حتى تضمن سلامة المصريين الموجودين فى ليبيا، وألا ننزلق فيما بعد لدخول حرب فى المستنقع الليبى تذكرنا بحرب اليمن. فى مقال قادم سوف أقدم لك دراسة قيمة أرسلها لى قارئ غير مصرى عن داعش، وهى تجيب عن أسئلة كثيرة.
الحقيقة أن معدلات العنف وبحور الدماء تتزايد بمتوالية هندسية فى الداخل والخارج.. الدم يجلب الدم والعنف يجلب العنف، لدرجة أننى أتمنى لحظة من الهدوء لأتكلم فى موضوع آخر. اهتم الإعلام منذ يومين بموضوع عرف باسم كلب الهرم، وبالطبع لم أحاول مشاهدة الفيلم، لكنى عرفت أنه قاس جدا. الكلب الذى كان جرمه الوحيد هو الدفاع عن صاحبه فمات ضربا وذبحا. اهتم الإعلام بالأمر جدا وخصص له الساعات.. ليس هذا جديدا فالشخصية المصرية قاسية على الحيوانات منذ القدم، وقد حكيت من قبل عن الرجل الذى وصف لى لذة وضع الكلاب الصغيرة فى كيس وإغراقها فى الترعة، وحكيت عن زملائى فى المدرسة الابتدائية الذين فقئوا عين حمار (على سبيل المزاح) وهو يأكل وفروا وهم يموتون ضحكا.. وآه يا صاحبى لو سمعت نهيق الحيوان التعس وهو يتألم!، وحكيت عن تجار الطيور الذين يسكبون البنزين على الكتاكيت ويحرقونها حية خوفا من انفلونزا الطيور، أو الذين يحرقون كف القرد بالسيجارة فى حديقة الحيوان.. أقسى من رأيته يتعامل مع الحيوانات فى حياتى هم المصريون، وهذا ليس شيئا طارئا، وقد قلت من قبل إن الحل يجب أن يبدأ فى المدرسة والمسجد، فلم أسمع فى حياتى خطيبا واحدا يتكلم عن الرفق بالحيوان. لا ألوم الإعلام على اهتمامه بالكلب، لكن المشكلة الحقيقية هى أننا نرى مشاهد مماثلة وأقسى مع البشر ولا يتكلم عنها أحد.. كان المصرى شديد القسوة على الحيوان فصار شديد القسوة على البشر كذلك، وهو يؤكد ما قلناه إن الرحمة لا تتجزأ، وأن من يقسو على الحيوان يقسو على الناس بنفس الطريقة. لا أحد يقسو على البشر لأنه استنفد كل ما لديه من رحمة فى الرفق بالحيوان. لقد صار موت الناس خبرا يوميا شبه ممل تقرؤه وأنت تتثاءب.. ومنظر الدم الذى يغرق الأسفلت معتاد فى نشرات الأخبار...
كم برنامجا تحدث عن السجين مدمن المخدرات الذى قتل بالتعذيب فى أحد أقسام الشرطة مؤخرا، وقيده الضابط لمدة 8 ساعات، ففتكت به أعراض انسحاب الهيرويين القاتلة؟. مدمن مخدرات ربما.. لكنه يستحق رعاية صحية بالتأكيد. هناك حادثة أخرى بشعة مماثلة وقعت لمحام، لكن النائب العام قد حظر النشر فيها، وتناولتها الشبكات الاجتماعية كلها. كم برنامجا تكلم عن هذة الحادثة قبل حظر النشر؟
فى الوقت الذى قتل فيه الكلب تقريبا كان مدرس لغة إنجليزية يحرق نفسه فى الشارع فى طنطا،. وتضاربت التفسيرات لهذا الحرق بين قائل يرى أن الفقر والراتب المنخفض هما السبب، ومن يؤكد أن السبب هو أنه شهد وقائع فساد فى المدرسة التى يعمل فيها، مع تواطؤ تام من قسم الشرطة مع الفاسدين والبلطجية الذين ضربوه ورفاقه، وعجزه عن مقابلة المسؤولين فى المحافظة. الأهم أن الناس راحوا يصورون المشهد بهواتفهم بدلا من المساعدة فى الإطفاء، وعلى شبكة الإنترنت سخر كثيرون فى توحش من المشهد باعتباره تمثيليا، وأن نية المدرس لم تكن صادقة فى حرق نفسه.. لو احترق لنظروا بعين العطف لمطالبه.
لا شك فى أن الشعب المصرى قد تغير كثيرا، فلم يعد ذلك الشعب المتسامح المسالم كاره الدماء كما كنا نصفه.. إن الضغوط المستمرة والشعور بفقدان العدل، مع تكرار الحوادث الدموية بشكل شبه يومى.. كل هذا قد أدى لأن تغلظ مشاعره وتثخن. يعرف الأطباء أنك عندما تمس قرنية الأرنب بقطعة قطن فإن الأرنب يرمش بعينه.. مع التكرار يكف عن عمل ذلك لأنه استهلك كل ما لديه من مادة أسيتايل كولين. بالمثل مع تكرار الحوادث تتعب العواطف وتنضب، ولربما صار المرء نفسه عاشقا للدم. لهذا يصير من الترف فعلا أن تتكلم عن الكلب الذى قتلوه ضربا، أو حضارة بين النهرين التى دمرت داعش تماثيلها ببساطة.. آثار لم تمس منذ أيام آشور بانيبال..
أرجو أن أجد موضوعا باسما أو غير مصبوغ بالدماء للمقال القادم