سألني صديقي عن رأيي فيما حدث في أستونيا.. قلت له إنني لا أعرف أن شيئًا حدث في أستونيا، فضلاً عن أن يكون لي رأي فيه. احمَّر وجهه واصفر واخضر ثم قال: "فلاديمير أرفونسكي يحاول أن يستميل المعارضة، وجبهة الزُرق تحاول نزع الثقة منه..".
قلت له إنني لا أعرف من هو فلاديمير أرفونسكي.. لا بد أنه وغد بلا شك.. يبدو أن استمالة المعارضة عمل وقح.. ويبدو أن الزُرق يجيدون عملهم. لكن صديقي راح يضرب كفًا بكف ويردد:
ـ "أنت كاتب مثقف.. المفترض أن تكون عليمًا بهذا.. كل الناس يتكلمون عن الموضوع".
قلت له في صبر إنني مشغول جدًّا في بعض الأعمال، لكني أفتح قناة بي بي سي أو الجزيرة طيلة الوقت أثناء عملي، وعلى قدر علمي لم تذكر هاتان القناتان حرفًا عن أستونيا مؤخرًا، كما أنني لم أرَ أستونيا في العنوان الرئيس لأي جريدة. ثم لماذا يفترض أن عليّ أن أكون كُلي العلم أرى كل شيء يحدث في كل ركن من الأرض؟.. ولماذا يتهمني بأنني مثقف وأنا لم أزعم هذا؟
عاد يسألني عن رأيي في كلام الداعية مختار الششماوي. هل أنت راضٍ عن هذا الكلام؟.. هذا الرجل زنديق يتظاهر بالتدين. فقلت له إنني لم أسمع عن أن هذا الداعية قال شيئًا، بفرض أنني أعرف داعية بهذا الاسم أصلاً. فعاد يَزرّق وبدأ الزبد يخرج من شدقيه، وراح يكرر:
ـ "هذه معلومة معروفة.. كل الناس تتكلم عنها"
لا شك أن هناك أخبارًا مهمة تفوتني، كما أن هناك أشياء يتكلم عنها الجميع ولا أعرفها. دعك من أنني لا أدخل الشبكات الاجتماعية مطلقًا، لهذا كان كل الناس يتحدثون عن (أيام سودا) أو (أسيادنا راضيين عليك)، بينما أنا لم أسمع حرفًا عن هذه الأمور، وبرغم هذا فإن عادة صديقي هي أنه يعرف المعلومة في الساعة السابعة مساء... في السابعة والربع يسألك عنها فإذا وجد أنك لا تعرفها بدا عليه الذهول، وراح يؤكد أنها شيء معروف.. ويصاب بذهول لأنك لم تسمع عنها. لعبة غير عادلة بالطبع تُذكرك بما تكلم عنه فقيد الطب النفسي الأديب د. عادل صادق، الذي وصف قاعدة (أنا بخير وأنت لست بخير).
هكذا رحت ألعب معه ذات اللعبة: هل أعدموا حسن أوجو كما هو متوقع؟ يسألني في حيرة مَن هو حسن أوجو، فأُصاب بذهول وحيرة.. كيف لا تعرف؟ كل شخص على ظهر الأرض يعرف حسن أوجو سواك. بعد قليل أسأله عن عدد الأورينات في الهاتف المحمول لديه، فيسألني عن كنه الأورينات.. من جديد أترنح من فرط الدهشة.. لا تقُل لي إنني عشت حتى رأيت رجلاً متعلمًا لا يعرف معنى الأورينات.
أذكر أنني كنت أستعد لامتحانات الدكتوراه عام 1996 أو 1997 تقريبًا، فذهبت إلى المكتبة المركزية بالأسكندرية –قبل عصر الإنترنت- لأعرف ما هو جديد في طب المناطق الحارة تخصصي.. وجدت مطبوعات كثيرة تتحدث عن داء الناكالانجا المتوطن في إفريقيا.. الاسم صحيح على فكرة وليس دعابة. وبالطبع لم أكن قد سمعت عنه حرفًا من قبل. بل إن منظمة الصحة العالمية جعلت هذا عامًا للناكالانجا. خطر لي أن الاحتمالات مرعبة.. لو كنت أنا الذي أمتحن الطلاب، فبوسعي أن أسألهم عن داء الناكالانجا هذا، ثم أبدي ذهولي لأنهم لم يسمعوا عنه.. منظمة الصحة العالمية جعلته مرض العام يادكتور وأنت لم تسمع عنه؟! وهكذا يرسبون جميعًا. من السهل جدًّا أن تجعل من تمتحنه عاجزًا عن النطق.. من يمسك بالبندقية يسيطر على كل شيء. ومن حسن حظي أن من امتحنوني كانوا أكثر تعقلاً ونضجًا فسألوا عن أشياء ينبغي أو يفترض أن أعرفها.
في أفلام الغرب الأمريكي موقف شائع، عندما يهدد الشرير البطل بمسدسه، فيقول البطل الأعزل:
ـ "أنت بارع جدًّا خلف هذا المسدس.. أليس كذلك؟".
لو تخيلنا أن الآية انقلبت وصار بوسع الطالب أن يسأل الأستاذ...! يمكنك دائمًا أن تجعل خصمك غير قادر على فتح فمه.
هي لعبة قاسية فعلاً، فمن الجميل أن نعرف، ومن الأجمل كذلك أن لا نُشعر الناس بالحطة والضعة لأنهم لا يعرفون ما نعرفه. تذكرت كلام أحمد فؤاد نجم عن عبقري الكاريكاتير حجازي –ليرحمهما الله معًا– الذي علمه كل ما يعرف عن شعر بيرم التونسي وسواه. قال نجم إن حجازي علمه الكثير فعلاً، لكن من دون أن يشعره للحظة أنه يعلمه. هؤلاء الذين لا يتيهون بما يعرفون أشخاص نادرون حقًا، خصوصا إذا اعتبروا علمهم نوعًا من الزكاة يجب توزيعها على الجميع، أو هو كالسوائل في الأواني المستطرقة يجب أن يرتفع بشكل متساو في كل الأنابيب. على كل حال لا يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتعلم من لا يعرف فيصير مثل من يعرف. كان لي زميل لا يفهم معظم ما نقول في محاضرات الماجستير عن الحمض النووي والقواعد وشفرة الوراثة، وكان يتضايق جدًّا لأننا نتكلم في هذه الأمور ولا نفسر، كما أن أحدًا لا يملك البال الرائق ليشرحها له. جاءه الحل مع قطعة بطاطا ساخنة ابتاعها من عربة في الشارع، وقد تم لفها في ورقتين من كتاب الأحياء للثانوية العامة.. الجزء الخاص بالشفرة الوراثية بالذات.. سبق له دراسة هذا الكلام لكنه لا يذكر حرفًا. عاد للبيت بالورق الملوث وفهم الموضوع وهو يلعق البطاطا من على أنامله، ثم قرأه في كتب الكيمياء الحيوية المعقدة.. وجاء الوقت الذي صار يطالع فيه مجلات الهندسة البيولوجية في نهم، واليوم هو يتكلم فلا نفهم نحن شيئًا من فرط سعة علمه.
في مقال قديم جدًّا لي قلت: "تخرج وسائل الإعلام للقاء الشباب ومعها المذيعة التي سكبت زجاجة أكسجين كاملة على شعرها ووضعت طنًا من المساحيق كأنها إحدى بطلات مسرح الكابوكي الياباني.. تسأل الشاب ...............أسئلة من طراز (متى مات بيلاطس البنطي؟).. (ما طول نهر المسيسبي؟).. (من مؤلف كتاب تثقيف الشعوب في تقنية الحاسوب؟).. السيدة المذيعة لو انتزعوا منها البطاقة الأنيقة فلن تعرف الإجابة، والسيد المعد لا يعرف الإجابة وأنا لا أعرف الإجابة".
الخلاصة: لا تلُم من لم يسمع عن الناكالانجا.. فأنت لم تسمع عنها قط قبل قراءة هذا المقال!