لا أعتقد أن قدوم ترامب لرئاسة الولايات المتحدة كارثي لهذه الدرجة، ففي النهاية هي دول ديمقراطية شفافة تتحرك بموافقة الكونجرس لا مزاج حكامها، فلن يشرب كأسين من الخمر ذات ليلة ثم يدخل القبو النووي ليضغط على زر تفجير موسكو أو يزيل مصر من على الخارطة، أو يطرد العرب والمسلمين من الولايات فجأة، وبالتأكيد لا يؤثر تغيير الرئيس الأمريكي على أمن إسرائيل وتدليلها. هي دائمًا في أفضل وضع ممكن مع أي إدارة.
القضية هي الرسالة الموجسة التي تلقيناها حول أن اليمين يتفوق في كل مكان، وقيم التعصب تسود يومًا بعد يوم. هناك خطاب متطرف داعشي من جميع الأطراف، ومن الواضح أن الأمريكي ذا العنق الحمراء الذي يضع قبعة البيزبول ويطلق السباب، ولديه كرش من احتساء البيرة هو الذي ربح في النهاية، بعد ما توقع الجميع أن أستاذ الجامعة النحيل المثقف في هارفارد هو الذي سيربح. بدا لهم أن الحق بيّن، لكنهم كانوا مخطئين. بالنسبة لي كان الأمر واضحًا منذ البداية باعتباري متشائمًا بطبعي: سوف يقع أسوأ السيناريوهات المحتملة كالعادة. نفس الموقف الذي مررت به ليلة انتخابات الفترة الثانية لبوش الابن، عندما أدركت بعد ربع ساعة أن الأحمق ضيق العينين ذا الأذنين الكبيرتين هو الرئيس القادم لا محالة.
تذكرت على الفور فيلم (ايديوكراسي)، والذي تقرأ معلومات عنه هنا. وهو فيلم رائع مظلوم إلى حد كبير، كتبه وأخرجه مايك جادج عام 2006. عنوان الفيلم يوحي بأن الطبقة الحاكمة ستكون من المعتوهين والبلهاء. ومن الغريب أنني إذ بحثت عن اسم الفيلم فوجئت على الفور بمقال عنوانه (فيلم ايديوكراسي يتحقق!..). يبدو أن الفيلم سيلقى ما كان يستحقه من نجاح أخيرًا!
تدور فكرة الفيلم حول أن البلهاء يتمتعون بخصوبة غير عادية، بينما المثقفون من ذوي معامل الذكاء المرتفع قد لا ينجبون أصلا. وهكذا يتكاثر الأغبياء بلا توقف بينما ينقرض العباقرة. ويتصور الفيلم أن بطلي القصة ارتحلا إلى أمريكا بعد مئات السنين متوقعين أن يكون الإنسان قد بلغ أرقى صورة له، فيكتشفان أن المجتمع صار جبلاية قرود يحكمها الأغبياء. الطبيب يفحصك وهو يتعاطى سيجارة حشيش، وكل برامج التليفزيون مقالب سخيفة، يشاهدها المشاهد وهو جالس على كرسي هو مرحاض في نفس الوقت! وأكوام القمامة تحولت لجبال شامخة. إنه العصر الذهبي للفظاظة والسوقية والسخف.
أما عن رئيس الولايات المتحدة، فهو خليط من مطرب روك وبطل كمال أجسام أسود، يمشي في مواكب الرئاسة بالدراجة البخارية، ويطلق الرصاص من البندقية الآلية كلما ضايقه أحد. لا شك أن أمريكا رزقت برئيس مماثل مؤخرًا. يكفي أن تتابع خطابًا مدته خمس دقائق للرجل. لكن رئيس أمريكا في الفيلم ظريف مفعم بالحيوية، أما ترامب فهو كتلة من الغلظة وثقل الظل. يذكرك بفتوة المدرسة محدود الذكاء الذي يضرب الصبية الأذكياء.
يحيط بالرئيس الأمريكي في الفيلم أغرب فريق رئاسي يمكن تخيله. ومنهم مستشارة تم تعيينها خصيصًا لأن صدرها كبير.
ما نعرفه من الفيلم هو أن ذلك العصر يعاني بشدة من الجدب والجفاف. المزروعات كلها تموت. السبب هو أنهم ألغوا الماء واعتبروه سائلا خطرًا. هناك مشروب أخضر لعين تنتجه شركة عملاقة ويشربه الجميع (لأنه يحوي إلكتروليتات مهمة للجسم) دون أن يفهم أحد معنى ذلك فعلا. الكل يشرب هذا الشيء بدلا من الماء ويسقون به المزروعات. التجربة الثورية التي يقوم بها بطل الفيلم، والتي تجعله رئيس الولايات المتحدة الجديد بعد نجاحها؛ هي أن يسقي الزرع بالماء، فتكون النتيجة هي أن ينمو، ويكون انتصاره ساحقًا. شاهد تريلر الفيلم الرائع هنا.
رغم أن قاعدة: "الأسوأ لم يأت بعد" جعلتنا نتنبأ بفوز ترامب، فإن علينا أن نتذكر المقال الجميل الذي نشره مايكل مور -المخرج الأمريكي المشاغب- منذ أشهر، وقال فيه إن ترامب فائز لا محالة. طالع المقال هنا. قال مور ضمن المقال الطويل: "آسف أن أنقل لكم أخبارًا سيئة.. ترامب سوف يفوز في نوفمبر. هذا المهرج الجاهل الخطر السيكوباتي هو الرئيس القادم. حتى لو كنتم تهزون الرءوس مؤكدين أن هذا لن يحدث يا مايكل. أنتم تعتقدون أننا سننتخب هيلاري كأول رئيس أنثى للولايات.. مثقفة تحب الأطفال وسوف تكمل مسيرة أوباما، وهذا لأربعة أعوام".
ثم يلخص في خمس نقاط أسباب فوز ترامب؛ منها خوف الأمريكان البيض من أن تحكمهم امرأة.. لقد تحملنا ثمانية أعوام لعينة من رجل أسود يخبرنا ما يجب عمله، ثم تأتي ثمانية أعوام مع أنثى. دعك من أن كثيرين لا يثقون بهيلاري ويشعرون بأنها مخادعة.. معظم الناخبين سوف ينتخبون هيلاري مع عصر الليمون لكنهم لن يجلبوا أصدقاءهم ليصوتوا، وعلى الأرجح سيبقون في البيت يومها. بل يتكلم عما يدعى تأثير جيسي فنتورا، حيث وجودك خلف ستار التصويت بلا رقابة ولا كاميرا، وحيث تمارس حريتك المطلقة يدفعك دفعًا إلى أن تختار اختيارًا سيئًا على سبيل التمرد، وهو يشبه ما قام به سكان منيسوتا في الماضي عندما انتخبوا فنتورا بطل المصارعة حاكمًا لهم. هذا نوع من المزاح المريض.. نفس المزاح الذي سيجعلهم يختارون ترامب. مجرد الرغبة في تحريك الأمور.
بعد وقوع الفأس في الرأس كتب مور مقالا عن قائمة بخمسة أشياء يجب أن تفعلها بعد فوز ترامب. يمكنك قراءة المقال هنا. من النقاط الخمس أن الحزب الديمقراطي يجب أن يعود للناس.. يجب طرد كل المحللين الذين رفضوا التراجع والتنازل فيما سبق، ثم هم اليوم يتحدثون عن التوحد والتقارب. يجب على كل عضو ديمقراطي في الكونجرس أن يجعل حياة الجمهوريين جحيمًا كما جعلوا هم حياة أوباما جحيمًا. على الناس ألا تصر على أنها مصدومة ومندهشة.. ترامب لم يكن مزحة. لقد صنعه الإعلام وصار حقيقة. قل للجميع إن هيلاري كلينتون فازت بالانتخابات.. معظم الأمريكان أرادوا هيلاري، لولا اختراع مخبول من القرن 18 اسمه المجمع الانتخابي. لو لم يتغير هذا المجمع فلسوف نرزق طيلة الوقت برؤساء لم نردهم. نحن ما زلنا نعيش في بلد يحب الليبرالية ويكره الحروب. يقول إن على كل أمريكي أن ينفذ بنود هذه القائمة قبل الظهر!
جاء ترامب، وأعتقد أنه لا يملك القدرة على جعل الحياة أسوأ، ما لم نمنحه نحن الفرصة والذرائع للتدمير، على طريقة 11 سبتمبر مثلا!