رسوم الفنان طارق عزام |
كان هذا هو الموعد. قلت لجين إنني سأقابل ذلك الرجل المريب في التاسعة مساء. قالت إنني أضيع وقتي مع المخابيل، لكن الإجابة كانت حاضرة قاطعة: أنا أجري بحثًا علميًا. طلبتْ مني أن أرتدي ثيابًا ثقيلة نوعًا، الجو بارد حاليًا خاصة في الليل. أمقت أن أعامل كطفل لكني فعلت ذلك.
يقيم برودسكي في بيت كبير في إحدى ضواحي فيرمونت .. هذا هو العنوان الذي ذكره لي.
كان البيت يبدو جديرًا بإحدى قصص ستيفن كنج. لا تنس أننا قريبون من ولاية مين جدًا .. بانجور مين حيث تقع معظم قصص ستيفن كنج المرعبة.
طبقة جليد خارج البيت .. يمكنك أن تدور حوله لترى المرآب وفيه سيارة عتيقة غلف عجلاتها بالجنازير. يمكنك أن ترى رفشَا وفأسًا و.. أشياء تصلح جدًا لنبش مقبرة، لكنها كذلك قد تكون بريئة .. ثم من قال إنه يفعل هذا؟ لقد استنتجت أنه كلف واحدًا آخر بهذا..
قرعت الباب فانفتح لأرى ذلك الوجه الذي أمقته. أنطون لافي تقريبًا .. رأس أصلع ولحية متصلة بالشارب تحيط بفم مزموم بعصبية. هذا الرأس يطل من ياقة بول أوفر سميك. لو قرر الشيطان التجسد فلن يسعفه خياله بصورة أفضل..
قلت له في أدب:
- «مستر برودسكي .. أنا ويليام جولدمان .. اتصلت بك بصدد …».
- «لوحاتي الفوتوغرافية .. أعرف هذا ..».
هكذا وجدت نفسي في بيت واسع مريح. هناك كلب لبرادور جميل يتواثب من حولي. هناك مكتب من طراز عتيق .. أنا لا أفهم في طرز الأثاث لكن أحسبه ثمينًا .. هناك مدفأة .. هناك مكتبة، وهناك عشرات الصور الفوتوغرافية لموديلاته الميتات..
صبّ لي كأسًا من الشراب، وقال وقد لاحظ نظراتي:
- «كل موديلاتي من أوروبا الشرقية من حيث جئت .. ثمة سحر معين في النساء في تلك البقعة. الجمال الثلجي البارد الشمعي الذي يوحي بالشهوة ويوحي بالقسوة ويوحي ببرودة الموت .. يمكنك أن تتخيل كل فتاة في هذه البلدان وقد صارت مصاصة دماء».
قلت في انبهار:
- «هذه لوحات مذهلة .. الرسم بالكاميرا بالمعنى الحرفي، لكني لم آت من أجل الفن».
وضع ساقًا على ساق وربّت على رأس الكلب:
- «زيارة لفنان تصوير من شخص لا يبالي بالتصوير .. هل لي أن أفهم؟».
قلت في حذر:
- «أكتب كتابًا عن النكروفيليا .. لدي مراجع عديدة، لكني لاحظت افتتانك بالموت وقررت أن آخذ آراءك كمرجع …».
- «حقًا أنا مفتون بالموت ولهذا قصة طويلة ..».
ثم قال وهو يضع الكأس وينهض:
- «هناك معرض صور مذهل في القاعة المجاورة .. كلها صور أصلية دفعت فيها مبلغًا هائلاً من المال .. لا يفعل هذا سوى عاشق حقيقي للموت».
الكلب يتواثب حولنا وأنا أمشي خلفه إلى القاعة التي ذكرها.
هنا فهمت على الفور ما يتكلم عنه.
في العصر الفكتوري انتشرت عادة شنيعة لدى الناس، خاصة مع كاميرات داجير البدائية. كل أسرة تفقد واحدًا من أفرادها تقوم بإلباس هذا الشخص ثيابًا عادية يومية، مع فتح عينيه الميتتين، ثم يجلس أفراد الأسرة حوله كأنها صورة عائلية هادئة. هذا هو تعبيرهم عن حبهم للمتوفى الذي يريدون أن يظل معهم للأبد.
النتيجة هي مجموعة شنيعة من الصور لأشخاص ميتين يجلسون بين أحياء، ومن الصعب أن تصدق أنهم موتى. إن الإنترنت يعج بهذه الصور، ولسوف تلاحظ علامة مهمة هي أن الأحياء تبدو صورتهم مهزوزة بينما الميت تبدو صورته واضحة حادة التفاصيل. في ذلك العصر كان عليك أن تبقى أمام الكاميرا نصف ساعة بلا حراك حتى لا تكون صورتك مهزوزة. بالطبع يتحرك الأحياء مع التنفس بينما الموتى لا يتنفسون. هناك قصة من هذا النوع مع الصورة الرئاسية الشهيرة لأبراهام لنكولن. كان قد وضع ساقًا على ساق وظل أمام الكاميرا نصف ساعة. لاحظ المصور أن ركبة لنكولن مهزوزة في الصورة. تبين السبب فيما بعد وهو أن ركبة لنكولن كانت تهتز طيلة الوقت؛ لأنه كان مصابًا بارتجاع في صمام الأورطي، وهي العلامة التي سماها الأطباء فيما بعد (علامة لينكولن).
كل الصور المعلقة أصلية تبدو عليها مخالب الزمن .. صبغة الأيام البنية المصفرة والتجاعيد. صحيح أنها لوحات محمية خلف إطار زجاجي، لكن الزمن أقوى بالطبع. عندما تتصور أن هذه الفتاة الرقيقة الجالسة بين أبويها ميتة، وأنها لن تلتقط أي صورة أخرى معهما، أو أن هذا الطفل الضاحك على حجر أمه قتلته الدفتريا ولن ترى وجهه بعد اليوم. عندما ترى هذه الصور ترتجف رعبًا .. لها تأثير مقبض عجيب، والحمد لله أن هذه العادة قد انقرضت..
لكن برودسكي قد استطاع الحصول على مجموعة مذهلة .. لابد أنها لا تقدر بثمن..
قلت له في افتتان:
- «أنت ثري جدًا».
قال في لا مبالاة:
- «عندما يتسلط عليك وسواس فأنت تبذل المال رخيصًا من أجله. كل هاوي صور قديمة في العالم يعرف أنني أشتريها بسعر باهظ».
- «هل تسمح لي بأن ألتقط بعض الصور لاحقًا؟».
لم ينظر لي .. فقط غادر القاعة وأنا خلفه وهو يقول:
- «بالطبع لا .. هذه صور أصلية وحساسة للضوء جدًا .. كل المتاحف المحترمة لا تسمح لك باستعمال الفلاش في التقاط صور محتوياتها. كادوا يفتكون بي في متحف الأرميتاج لأنني حاولت».
عندما عدنا لقاعة الجلوس كنت أشعر بانقباض هائل في صدري بعد رؤية المعرض الرهيب. لابد أن هناك خمسين صورة من هذا الطراز عند الرجل.
جلست على أريكة وتأملت المكان من حولي .. هناك رف رصت عليه شرائط فيديو وأقراص مدمجة. هناك جهاز فيديو في الركن. كل جهاز فيديو صار عتيق الطراز بعدما انقرض هذا الاختراع أصلاً. لكن عناوين الأفلام تدعو للتأمل: وجوه الموت – موندو – إلخ..
أي أنها تلك الأفلام شبه التسجيلية التي تجمع لقطات حقيقية للحظات موت ناس .. لحظات بشعة على الأرجح مثل رجل تلتهمه الأسود أو رجل يمزقه قطار..
ترى أين يحتفظ بمجموعته من الأطراف المبتورة من جثث؟ بل أين يضع الجثث نفسها؟.
يجلس بردودسكي أمامي وهو يداعب عنق كلبه، والكلب يزوم في مزيج من الاستمتاع والتهديد لي..
هذا رجل فريد .. هذا هو الرجل الذي أحتاج لوضعه في كتابي..
النقطة الثانية المهمة، هي أنه لو كان في الولايات المتحدة كلها رجل ينبش القبور ويخرج منها الجثث، فلابد أنه هذا الرجل..
يُتبع