ليس موضوع هذا المقال عن رحيل الفنان محمود عبد العزيز، برغم أنه يستحق عدة مقالات. لا شك أن هذا الرجل بأدائه وصدقه، ومصريته الشديدة، وملامحه التي تجمع بين الحساسية والوسامة والظرف قد ترك بصمة لا تُمحى على الفن المصري، وأعتقد أن كل بيت مصري فقد جارًا أو قريبًا أو صديقًا عزيزًا عندما تركنا محمود عبد العزيز.
أتحدث عن صورة انتشرت في عدة مواضع وأرسلها لي الكثيرون بالبريد الإلكتروني، والصورة تمثل الفنان حسن حسني وهو يبكي في جنازة محمود عبد العزيز. لو دققت النظر في الصورة لوجدت أن الفنان محمود عبد العزيز يواسي حسن حسني في تعاطف شديد !
بالطبع التقطت هذه الصورة أثناء جنازة ابنة الفنان الكبير حسن حسني التي توفيت في 21 مارس عام 2013. ويمكنك أن ترى في النت صورًا أخرى لنفس الموقف الرهيب
يزعم من نشر هذه الصورة مؤخرًا مع خبر وفاة محمود عبد العزيز، أن بعض الصحف قد نشرتها ضمن وباء الاستسهال والاستهتار المزمن بعقلية القارئ/المشاهد الذي يجتاح مصر حاليًا. الأمثلة السابقة كثيرة ومنها بالطبع عرض لقطات من لعبة فيديو على أنها مشاهد من القصف السوري لسوريا.. إلخ. لكن الأمر في هذه المرة عسير التصديق. من يصدق أن هذا قد نُشر بالفعل لا يختلف في سذاجته عمن يعتقد أن هذه الصورة صحيحة.
هكذا يمكن القول إن هناك نوعين من الحمق.. حمق أن تجد خبرًا غبيًا فتصدقه. وحمق من يعتقد أن هناك من سمع هذا الخبر الغبي فصدقه. هناك بلاهة أن ينخدع أحدهم بأكذوبة مفضوحة.. وبلاهة أن تفترض أن هناك من انخدع بها فعلاً! النوع الثاني من الغباء يشعرك بالتميز والتفوق العقلي على طريقة: "لقد صدق البلهاء هذا.. تصور!!"
يبدو الكلام معقدًا، لكنك تصادف أمثلة كثيرة في كل يوم.
مثلاً ترى صورة الحاج القادم من المنوفية بزجاجة مياه معدنية، والذي استضافته الملكة إليزابث، وقالت إنها فخور بتلك اللحظات التاريخية. طبعا لم يخطر ببال الحاج أن هناك من سيصدق هذا، والطريقة برمتها نوع من الدعاية الممتزجة بالدعابة والتي تعلق بالذاكرة، لكن الناس صدقوا أنه كان صادقًا في كذبته!.. وتم تداول الصورة مع صيغة (تصوروا أن هناك من يصدق هذا!). هنا يكون من السذاجة أن تفترض أن هناك أناسًا سذجًا لدرجة تصديق هذا
من ضمن الأخبار التي تم تداولها على النت صورة لرجلين يعترفان بأنهما من المافيا، وهما اللذان دبرا قتل الإيطالي ريجيني لإحراج الحكومة المصرية. الكرويون عرفوا على الفور اللاعبين الإيطاليين فابريتسيو نيكولي وجينارو كاتوسو في مؤتمر صحفي. بمعنى أن من لفق الخبر استعان بصورتي لاعبين يعرفهما الجميع، وكان بوسعه أن يأتي مثلاً بصور رجال مافيا حقيقيين. بحثت عن مصدر الخبر أو الجريدة التي قامت بالتزييف فلم أجد. برغم هذا تداول الناس الصورة على مواقع التواصل الإجتماعي مع نغمة: "هل تتصور بلاهة هؤلاء القوم..! يكذبون كذبًا مفضوحًا وهناك من يصدقهم!".
اللعبة إذن سهلة: قم بتلفيق خبر واضح الكذب، ثم انشر على النت أن خصومك يصدقونه. هناك من سيصدقونه فعلاً، وهناك من سيصدق أن هناك من صدقوا !
حضرت في أحد منتديات الملحدين على النت قيامهم بتلفيق معجزة قائمة على رسم موجات الصوت المنبعثة من جذور النبات، وكيف أنها ترسم لفظ الجلالة بوضوح تام، وأن البروفسور جون ماكديفيد أعلن إسلامه مع فريق العلماء الذين اكتشفوا الظاهرة. ثم أن ملفقي الخبر نشروه في عدة مواقع، وسرعان ما صار هذا موضوع الساعة وتداولته منتديات كثيرة.
هناك صورة شهيرة لحفل تكريم هيكل في الأهرام، وفيها يظهر هيكلان في الصورة. أعتقد أنها صورة ملفقة أخرى. لم تلفقها جريدة الأهرام، ولكن من يريد أن يزعم أن الجريدة لفقتها !
مؤخرًا كان هناك تصريح للدكتورة منى مينا وكيل النقابة العامة للأطباء، ورد في حوارها مع الإعلامي جابر القرموطي. قبل أن نتكلم فلتسمع ما قالته هنا.
كان كلامها واضحًا: هذا ليس كلامها بل كلام طبيب اتصل بها. والكلام يتحدث عن تعليمات بعض مستشفيات وزارة الصحة لأطبائها بتخفيض استعمال المستهلكات للنصف، واستعمال نفس جهاز المحلول لنفس المريض أكثر من مرة يوميًا. هذا بالطبع مناف تمامًا لقواعد مكافحة العدوى، لكنه يختلف بالتأكيد عن التحريف الكارثي الذي تم لكلامها، ليتحول بعد ساعة إلى (د. منى تتهم المستشفيات باستعمال نفس السرنجة لأكثر من مريض) ثم بعد ساعتين (د. منى تطالب باستعمال نفس السرنجة لأكثر من مريض)!
كلام فارغ ولا يمكن لطبيب بكامل قواه العقلية أن يتحدث عن هذا في بلد يصرف المليارات لعلاج الفيروسين سي وبي. البلاهة الحقيقية أن يصدق أحد أنها قالت ذلك. لكن الناس صدقوا ما لا يصدق وانهمرت عليها الاتهامات واللعنات والمطالبات بشنقها، وقالوا إنها إخوانية برادعية في مزج مدهش بين خصمين لا يمكن أن يتفقا أبدًا.
القصة أسعدت جميع الأطراف. أعداء النظام سرهم جدًا الكلام عن أن مستشفيات مصر تستعمل نفس المحقن لأكثر من مريض، وأصدقاء النظام أسعدهم جدًا أن د. منى قالت هذا مما يسمح بتصفية فاتورة حساب طويلة ضد هذه الثائرة. المستشفيات لم تطلب هذا ومنى مينا لم تقل هذا!
وفي النهاية يجب الاعتراف بأننا نمر بظروف كارثية من حيث توافر الدواء والمحاليل. معظم مراكز غسل الكلى الخاصة تغلق أبوابها. تعثر اللقاح ضد فيروس بي مرارًا بسبب نقص الجرعات. يمكنك أن تقرأ حجم المشكلة في هذا المقال الخطير للأستاذ عبد الناصر سلامة. بالتأكيد ليست منى مينا هي سبب مشكلة العلاج في مصر. ومن الحماقة أن تصدق أنها قالت هذا، لكن الناس تريد أن تصدق.
نحن نتحرك في ضباب.. الإنترنت والفضائيات قد زادت الظلام كثافة فلم نعد نتبين الحقيقة على الإطلاق إلا في وهج عود ثقاب واهن اسمه المنطق، لكننا في زمن يحرق فيه المنطق أناملنا.