أطلق على هذه الظاهرة اسم (التأثير البؤري للمصائب). عندما تضيء كشافك على جدار قريب فإن بقعة النور تكون صغيرة .. كلما ابتعدت اتسعت البقعة أكثر فأكثر. كلما كنت في الخارج وسمعت عن مصيبة في أرض الوطن، فإن الأمر يتناسب مع بعدك عنها. على هذا البعد تتضخم الأمور وتتسع رقعتها.
في العام 1992 كنت في المملكة العربية السعودية ، وكنت عائدًا لداري منهكًا يوم 12 أكتوبر، عندما قابلني صديقي التونسي شريك شقتي، وقد بدا عليه الحرج ونظرات التفهم لأحزاني. قال لي:
ـ"آسف لهذا المصاب الجلل .. أرجو ان تكون الأسرة بخير"
مصاب جلل؟... وثب قلبي لفمي وهو يحكي لي عن الزلزال الذي ضرب مصر. كنت آخر من يعلم. لم تكن هناك شبكة إنترنت ولا هواتف محمولة ولا فضائيات.. التلفزيون الرسمي السعودي ينقل التعازي ويصف حجم الخسائر المهول، والمساعدات المقدمة للشعب المصري المنكوب. تهرع إلى كابينة الهاتف ذي العملة، صلتك الوحيدة بمصر، فتجد نحو ألف مصري يحاولون الاتصال بذويهم. طبعًا هو فشل كامل بسبب كثرة المكالمات.. فقط من ينجح في الاتصال يخبره أهله أن بيته في بولاق قد انهار وأن أمه جرحت.. تقضي الوقت في محاولة الاتصال حتى الثالثة صباحًا. كل شيء يتضخم، وتتخيل جثث أحبابك الذين تخرجهم هيئات الإغاثة الدولية من تحت الأنقاض..
شاب مائع في السابعة عشرة يشق الزحام نحو الكابينة، ويمد يده لسماعة الهاتف ويطلب رقمًا، ثم نسمعه يكلم في حنان فتاة على الطرف الآخر:
ـ"أطلبك من كابينة في الشارع حتى لا يجدني (المطوّع) ولا الشرطة.. هل حقًا لا تعرفين اسمي؟ خمني؟ لا .. ليس عبدالله ولا فراس .. لا والله.. لكني أعرف اسمك.. هيء هيء"
قبل أن يفهم ما يحدث كانت عشرون صفعة قد انهالت على قفاه من المصريين الواقفين، مع حشد من الشتائم والركلات، وسرعان ما وجد نفسه ساقطًا على بعد أمتار وهو لا يفهم ما حدث حقًا. لا وقت للحب.. هذا شعارنا جميعًا وقتها.
في اليوم التالي يخبرك أحد المصريين في حزن وهو ينظر للأرض، أن طنطا – مدينتك – قد ابتلعها صدع عملاق. غاصت في باطن الأرض ثم انغلق الصدع عليها، وهناك سابقة تاريخية معروفة. هلم اقرأ الفاتحة على أرواح أهلك وجيرانك وخطيبتك يا دكتور وتجمل بالصبر. الخلاصة أنني قضيت ألعن ثلاثة أيام في حياتي، فلم أنم أو آكل أو يسترخ قولوني المتقلص لحظة، دعك من معدتي التي تحولت إلى معمل لماء النار. وفي النهاية نجحت في الاتصال بقريب لي يعمل في (أبو ظبي)، فأجرى بعض الاتصالات بمصر وقال لي إن كل شيء على ما يرام. طنطا كانت سعيدة الحظ بالنسبة للقاهرة، والمصري الذي قال لي معلومات مؤكدة كان يمارس شهوة من يعرف بواطن الأمور، وهي شهوة شبه جنسية.
حدث نفس الشيء تقريبا ليلة الخميس 3 نوفمبر 2016، وأنت خارج البلاد تسمع في التلفزيون وعلى الفضائيات ما يحدث في مصر بعد تعويم الجنيه، ثم بعد ساعات ارتفاع أسعار الوقود وطوابير السيارات أمام محطات الوقود قبل أن يطبق الارتفاع فورًا .. مع البعد والمسافة تتضخم الأمور وتشعر بهلع حقيقي.. ماذا يحدث في مصر؟ لماذا تسرعوا بهذا الشكل؟ كان من الممكن أن تتم هذه القرارات على مدى عامين أو أكثر، ولماذا يفعلون هذا قبل موعد مظاهرات 11 نوفمبر التي نفت معظم قوى المعارضة أنها دعت لها؟ هل هم يريدون أن يشتعل الوضع فعلاً قبل الموعد، أم هي عشوائية حمقاء كالعادة؟
هل هو كابوس؟ هل أنام وأستيقظ في الصباح لأكتشف أنني كنت أحلم؟
هل هو كابوس؟ هل أنام وأستيقظ في الصباح لأكتشف أنني كنت أحلم؟
لم أنم في تلك الليلة، وأجريت آلاف الاتصالات وفتحت ألف قناة فضائية لأرى هؤلاء الذين يتلذذون بشهوة من يعرف بواطن الأمور، وبدا لي الفندق الفاخر (هراسًا به يُعلى فراشي ويقشب). عادت معدتي تؤدي دورها القديم كمعمل لتصنيع ماء النار.
رحت أتابع الارتفاع الجنوني لسعر الدولار الذي قالوا إن قرار التعويم سوف يقضي عليه فإذا به يعجل به! ليلة أمس قرأت أن الدولار في انخفاض مستمر، وسوف يتحول مع الوقت إلى نوع من ورق التواليت لا قيمة له، ومن يحتفظ بدولار فقد ارتكب غلطة العمر. لقد أثمرت القرارات الاقتصادية أخيرًا. في اليوم التالي خرس هؤلاء جميعًا وتواروا في خجل، أو راحوا يبحثون عن نظريات أخرى للحكمة بأثر رجعي. قبل هذا قالت تحليلات كثيرة إن تعويم الدولار لن يتم إلا بعد 11 نوفمبر حينما يتم إمساك البلاد أمنيًا بصرامة بدعوى حمايتها. كلهم قوم واثقون متأنقون يلبسون نظارات بلا إطار وربطات عنق، ودرسوا في مانشستر، ولهم عمود في جريدة الأهرام ووجود في كل برامج الفضائيات. ما توصلت له هو أن الاقتصاد علم صعب جدًا لا يفهمه أحد، وأن ما يعرفه كبار الخبراء الاقتصاديين عن الاقتصاد لا يختلف كثيرًا عما أعرفه أنا. هؤلاء قوم لا يزيدون في أهميتهم وعلمهم على الخبراء الاستراتيجيين.
ما أثار دهشتي لدى عودتي لمصر هو أن الناس استقبلت كل هذه التغيرات الكارثية بالاكتئاب وليس بالغضب. حالة ذهول عامة وقد أدرك كل واحد أن كل جنيه في جيبه صار أربعين قرشًا، وقد تسرب الغلاء لكل شيء حتى شطيرة الفول والطعمية .. اكتئاب في كل مكان .. وكساد .. ودهشة .. لا شك أن السيدات الراقصات أمام اللجان لم يفكرن في هذه اللحظة قط.
أثار دهشتي كذلك هؤلاء الإعلاميون المنافقون الذين يتمتعون بخسة مذهلة، والذين ألقوا بكل اللوم على هذا الشعب الكسول الذي يشرب الكثير من السكر ويرفض الجوع. الحكومة ممتازة لكن الشعب سيئ جدًا. ترى ماذا سيفعله الإعلامي من هؤلاء لو نقص دخله السنوي مليونًا؟، وهل يقبل بأن يتبرع لصندوق تحيا مصر بدخل شهر؟.. المصريون ليسوا كسالى بالتأكيد لكنهم يُخدعون بسهولة جدًا، ويصدقون كل شيء.
ربما كان بوسع المصريين أن يتحملوا لو أيقنوا أن هناك منفعة حقيقية من هذه المعاناة، كما قال تشرشل للبريطانيين يومًا: "ليس عندي لكم سوى العرق والدموع .. هذه ليست بداية النهاية بل هي نهاية البداية". لكن البريطانيين كانوا يعرفون أنهم في مجتمع عادل شفاف. معظم الانهيار الاقتصادي في مصر جاء من المشاريع العملاقة غير المدروسة التي قال الخبراء إنه لا ضرورة لها (ولا ذنب للمواطن فيها) وجاء من انهيار السياحة (ولم يفعلها المواطن لكن فعلها قتل السياح المكسيكيين وقصة ريجيني والطائرة الروسية) وجاء من انعدام العدل الذي يمنح مزايا هائلة لشرائح بعينها دون مبالاة بالشرائح الأخرى، مع ترك الكبار بملياراتهم المكدسة في سويسرا بلا حساب، وعدم تطبيق الحد الأعلى للأجور، وسلسلة الإدارة الفاسدة التي قضت على الصناعة وإمكانية التصدير، مع محاسبة برلمانية توافق وتصفق لكل شيء، وافتقاد كامل لأي رغبة في التقشف الحكومي.
قال هيكل إن العالم ينقسم في رأي الغرب إلى دول يجب أن تطفو مثل إسرائيل، ودول لا مشكلة في غرقها مثل الصومال، ودول لا يسمح لها بأن تغرق ولا أن تطفو مثل مصر .. لأن غرق مصر معناه تحولها إلى قنبلة ذرية تهدد المنطقة كلها بتعدادها الهائل. لهذا لا أصدق أن هناك من يتآمر علينا .. نحن نتآمر على أنفسنا وأقحمنا نفسنا في كوارث الحروب بلا حرب حقيقية. وخلال عامين يسهل أن ترى ما وصلنا له.
هل هي مؤامرة بارعة يحيكها مصريون ضد مصريين؟ أم هي عشوائية مطلقة أقرب لدجاج يتخبط مذعورًا في عشة؟ بصراحة لا أعرف.