قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, July 8, 2017

في الدائرة الداخلية



عندما كان إيفان سانشين عامل العرض السوفييتي يعرض الأفلام الوثائقية على الضباط في نادي الكي جي بي، وعندما كان يرى صور التماثيل العملاقة لستالين. الأب.. الأعظم.. شبه الإله، فإنه لم يجل بخاطره قط أن يصير عامل العرض الخصوصي لستالين نفسه، وأن يدخل الدائرة الداخلية حيث خاصة الخاصة..

هذا هو موضوع الفيلم (الدائرة الداخلية)، والذي عرض عام 1991، والذي أخرجه المخرج السوفيتي أندريه كونشالوفسكي وقام ببطولته توم هولس مع لوليتا دافيدوفتش وبوب هوسكنز.. وهو دراسة فائقة الإمتاع عن فكرة الافتتان بالدكتاتور إلى درجة التأليه.

الدكتاتور الإله فكرة تنطبق على كثيرين، ويظل المثال الأقوى هو ستالين.. الدكتاتور بمذاق العصر الحديث حيث وسائل الإعلام الحديثة وفن السينما تتداخل لتقدم صورة أكبر من الواقع بكثير.. لا شك أن إيفان الرهيب أو بطرس الأكبر لم تتح له فرصة كالمتاحة لستالين.


كلما عانى الناس مع الدكتاتور قالوا إنه لا يعرف بمعاناتهم.. من حوله هم المفسدون بينما هو ملاك نبيل لا يكل ولا يمل من أجلنا. عندما مات ستالين لم تصدق روسيا أن هناك إلهًا يموت على طريقة عادل إمام (هو فيه زعيم بيموت يا باشا؟)، وانهار الجميع وبكوا في الشارع واندفعوا متزاحمين يدوسون بعضهم لإلقاء نظرة اخيرة عليه.. وفي المعتقلات الثلجية بسيبريا بكى المعتقلون الذين سجنهم ستالين نفسه لأنهم فقدوا الأب الذي أرسلهم هناك ليؤدبهم، وهي نقطة أجاد التعبير عنها إيليا اهرنبورج في رواية (ذوبان الجليد) التي تصف وفاة ستالين. تذكر ما كتبه أحمد فؤاد نجم عندما كان في معتقل عبد الناصر وسمع بخبر وفاته:
فاجومي من وسطنا .. مالوش مرة سابت
وعاش ومات وسطنا .. على طبعنا ثابت
وإن كان جرح قلبنا .. كل الجروح طابت

سوف تتبين لدى دراسة حياة ستالين أن كل الدكتاتورات يتشابهون، أو لعلهم خرجوا جميعًا من معطفه. سوف تشم رائحة صدام حسين وموبوتو وعايدي أمين وعبد الناصر (برغم حبي للأخير) وغيرهم.. وهناك كذلك الجمهور المفتون الذي يصل بحبه للدكتاتور لدرجة العبادة والتأليه، مع الثقة التامة بأنه يملك حلاً سريًا أو أوراقًا في كمه لكل مشكلة..

قصة الفيلم عن أحداث حقيقية وقعت لعامل العرض البائس الساذج إيفان سانشين الذي يعيش في غرفة من غرف الإسكان الجماعي حيث كل شيء فقير ورطب وقذر. وفي يوم زواجه يتلقى دعوة رهيبة من رجلي مخابرات كي يذهب معهما.. تلك الدعوات التي تنتهي غالبًا بالاعتقال أو الاختفاء، لكنه يكتشف بعد قليل أن السيارة السوداء الغامضة تتجه للكرملين، وهناك يكتشف أن عامل العرض الخاص بستالين قد مات ويريدون استبداله.. وأنه سيعرض أفلامه على ستالين شخصيًا. 


توم هولس الممثل المذهل الذي رأيناه في فيلم أماديوس يلعب هنا دور عامل العرض المذعور الذي يوشك على أن يبلل نفسه رعبًا عندما يعرف الخبر.

تعاقد مغر لكن السرية شرط مهم وجوهري.. كل شيء سر وممنوع الكلام عنه، على طريقة هيكل عندما قال إن السرية في المجتمعات الشيوعية توشك أن تكون هدفًا في حد ذاته.. أي أن الشيء سر لأنه سر.. 

أخيرًا يرى الرجل العظيم شخصيًا: ستالين.. وحوله أسماء يسمع عنها كل يوم ولا يتصور أن أصحابها من لحم ودم: بيريا.. شيلكاسوف..مولوتوف.. كالينين. إنه يرتجف ولا يصدق أنه يرى هؤلاء من هذه المسافة القريبة. كلهم هنا يتبادلون المزاح ويأكلون الشيكولاته ويشربون الشاي.. شاهد هذا المشهد هنا. ثم يبدي ستالين إعجابه ببراعة سانشين في تشغيل الجهاز وفي إصلاحه عندما يحدث عطل فني في سوستة به، وهكذا يصير سانشين داخل الدائرة الداخلية لكبار رجال الحزب. النقطة الرئيسة هي أنه لا يخبر زوجته أبدًا وهو سر يثقل كاهله.


الزوجة نفسها لديها سر صغير تخفيه عن سانشين، هو أنها تتردد على أحد الملاجئ لتزور ابنة جارهم اليهودي المعتقل.. الطفلة التي لا عائل لها سوى الدولة. سانشين يرفض الكلام عن الطفلة لأن هذا خطر جدًا.. حسب تصنيف الحكومة فأبو الطفلة عدو الشعب. مدفوعة بعاطفة أمومة ظمأى لا تعرف القيود تتردد على الملجأ كثيرًا وتحاول التطوع للعمل فيه. وفي الملجأ نرى مشاهد قاسية لصهر كل هؤلاء الأطفال الذين انتزعوا من أهلهم، فيتم قص شعورهم وتوحيد زيهم وتعليمهم أن يكرهوا آباءهم أعداء الشعب. وفي مشهد قاس تهنئ المشرفة أحد الأطفال لأنه أبلغ عن ابويه لأنهما يشتمان ستالين، وتجعل الأطفال يصفقون له ويرسمون دائرة بأياديهم المتشابكة من حوله. النتيجة هي أن هؤلاء الأطفال يكبرون وهم لا يعرفون لأنفسهم أبًا غير ستالين.

تقول الطفلة في أحد المشاهد بعد ما كبرت نوعًا: "من دون الرفيق ستالين لكنت مت منذ زمن.. هو الذي يطعمني ويسقيني ويعالجني ويمنحني المسكن" وهي كلمات يمكن للمرء أن يصف بها إلهه.

عندما تقع الحرب ويهاجم هتلر ألمانيا يظل سانشين يراقب ستالين في انبهارمتسائلاً عن الطريقة "التي سينقذنا بها". وحتى عندما يخلي ستالين موسكو من الحكومة لأن الدبابات الألمانية على بعد 80 ميلاً فإن سانشين ما زال يؤمن بأن ستالين سيفعلها في النهاية. يركب القطار المتجه إلى جبال الأورال مع زوجته التي وجد لها عملاً في تقديم الشاي لكبار رجال الحزب. القطار يحمل كل الرجال المهمين وبينهم بيريا وزير الداخلية القوي المخيف. وهذا البيريا ينجح في إغواء الزوجة واغتصابها..


ثم أن عمل الزوجة يصير أداة ترفيه في يد الكي جي بي، لكن سانشين يقبل هذا في كثير من التواضع ولربما الفخر. لأن كبار رجال الدولة يضاجعون زوجته!

تنتهي الحرب ويردد سانشين: لقد أنقذنا ستالين مرة أخرى!. تختار الزوجة التي صارت حاملاً – ليس من زوجها طبعًا – أن تشنق نفسها. ووسط الكابوس الذي يعيشه الزوج يرى وسط الثلوج الرفيق ستالين يمشي مرددًا: كيف لي أن أثق بأحد بينما الكل يكذبون علي؟ حتى أنت تزعم أن لك زوجة بينما هي انتحرت منذ عشرين دقيقة!

المشاهد الأخيرة هي وفاة ستالين التي حامت حولها علامات استفهام كثيرة. الفيلم يظهر وجه بيريا والآخرين بشكل مريب يقول ولا يقول إنهم الفاعلون.. هناك على الأرجح من قام بتسميم الزعيم. الرفيق ستالين الذي صنع مجد الاتحاد السوفيتي وقهر النازيين قد مات، يتدافع الناس إلى الكرملين – قاعة الأعمدة – ويدوسون بعضهم البعض في مشهد هستيري. حتى أن كاتيا – الابنة اليهودية التي حرمها ستالين من ذويها – راحت تحاول الانتحار تحت الأقدام لأنها من بعد ستالين لا تريد أن تعيش يومًا آخر. يقول أحد أبطال الفيلم: "من في الكرملين ليس ستالين.. بل هو الشيطان. فقط الشيطان يقدر على أن يجعل الجموع تتبعه حثيما شاء دون تعقل ولا تفكير.. الشيطان هو الذي يجعل الناس يعبدونه بدلاً من الله".

يخبرنا الفيلم أن جنازة الدكتاتور أدت إلى هلاك 1500 شخص تحت الأقدام. ويخبرنا كذلك أن بيريا المرعب قد حوكم بعد ذلك بعام وأعدم بتهمة الخيانة.

سيناريو عبادة الفرد يتكرر بإلحاح في عالمنا العربي بالذات، وهو طريق واحد له نهاية واحدة لا تتغير أبدًا.. لكن الحكام لا يشاهدون الأفلام الجيدة من نوعية (الدائرة الداخلية) كما هو واضح.