يمكن تلخيص مجموعة مقالاتي منذ عامين أو أكثر في كلمة واحدة «عيشة تقرف» وهو بالضبط معنى المقطع اللاتيني (فيتا ديستابيليس) في لحن «كارمينا بورانا» الرائع. الحق أن على المرء أن يقلل مقالاته قدر الإمكان هذه الأيام، فالروح مثقلة بالهموم والأحزان والإحباطات، ولا يسع المرء إلا أن يسكب بعض هذا الهم في مقالاته فإذا هي برك تفيض بالاكتئاب، وليس من دور الكاتب أن ينشر الطاقة السلبية من حوله، لكن الأمر قد يكون أقوى منه أحيانًا.
فيتا ديستابيليس يا باشا.. وأنت ترى أن الشباب يفقد إيمانه بالبلد يومًا بعد يوم ويبحث عن طريقة للفرار. كتب كثير من الشباب في صفحاته: «اللهم هجرة». وفي كل حوار مع شباب لابد أن تكتشف أن 70% منهم يحلمون بترك البلد. صار من الصعب أن تسمع عبارة «لو رحلنا نحن فمن يبقى في البلد؟»، أو «لن نتركها لهم».. إلخ. لاحظ أحد الأذكياء أن عقاب المصري في الماضي كان هو النفي، أما اليوم فعقابه هو المنع من السفر.
كيف أكون متفائلاً وأنا أرى مصر قد صارت مركز طرد؟
فيتا ديستابيليس عندما يقفز الدولار من ثمانية جنيهات إلى عشرين في أقل من عام، ثم عندما يثبت سعر الدولار أو ينخفض أخيرًا فإن كل شيء يواصل الارتفاع. هكذا تكتشف أن جهاز تلفزيون كان سعره في بداية الشتاء 8000 جنيه قد صار بـ 25 ألفًا.. اللحم يقترب من 130 جنيهًا ببساطة، ولا يوجد ضمان واحد أنه لن يباع بثلاثمائة جنيه بعد أشهر. عامة هناك قاعدة لا تخيب؛ هي أن كل شيء تضاعف سعره مرتين، أما الأجهزة الكهربية فتضاعفت ثلاث مرات. أعتقد أن حلم الزواج من هالة صار صعبًا جدًا يا وائل.
فيتا ديستابيليس وأنت ترى وثبة البنزين التي رفعت معها سعر كل شيء، وصار ملء خزان سيارتك – لو عندك سيارة – هو 300 جنيه.
تعال نسمع ما قاله خبير اقتصادي هو «مصطفى عادل» (منقولة عن أ. أحمد زيدان)، وأهمية كلامه هي أنه موثق بالأرقام:
الدين الداخلى: كان 1203 مليارات جنيه في 2013… (بنسبة 69.7% من الناتج القومى) فأصبح 1830 مليارا فى نهاية 2014 (بنسبة 76% من الناتج القومى) وأصبح 2023 مليارا في منتصف 2015 (بنسبة 89% من الناتج القومي). تجاوز 3000 مليار فى منتصف 2016 (تجاوز الناتج القومي) ووصل 3400 مليار في منتصف 2017 (بنسبة 108% من الناتج القومي ).
الدين الخارجى : كان 34.7 مليار دولار فى 2013 فأصبح 50.3 مليار دولار فى نهاية 2015 . ارتفع بنسبة 40% ليصل 67.4 مليار دولار فقط في عام 2017.
عجز الموازنة: كان 240 مليار جنيه في موازنة 2013 فأصبح 320 مليار جنيه في موازنة 2016 والآن 370 مليار جنيه في موازنة 2017/2018.
سعر صرف الجنيه: الدولار 643 قرشا في 2013 والدولار 1105 قروش في 2016 والدولار 1825 قرشا في 2017 .
الاحتياطي الدولاري :المعلن الآن هو 32 مليار دولار تحرك من حوالي 17 ملياراً في عام 2013 – الودائع الخليجية المطلوب سدادها خلال الخمس سنوات 23 مليار دولار، هذا بخلاف تركيا بقيمة مليار دولار، ونادي باريس بقيمة 1.7 مليار خلال الشهرين المقبلين، هذا بخلاف الالتزامات الأخرى للدولة، والاستثمار الأجنبي في الأذون والسندات المصرية والتي قدرت بأكثر من 6 مليارات دولار فقط في ( 5 شهور منذ بداية العام) .
معدلات التضخم (مؤشر الغلاء) حسب إعلان الجهاز المركزي للإحصاء: ارتفع معدل التضخم من 12.3% في مايو إلى 14% في يونيو 2016 وكان الأعلى.. ولكن الآن معدل التضخم الرسمي المعلن من البنك المركزي المصري قد تجاوز 32.25% .
فيتا ديستابيليس وأنت عاجز عن تخطيط أي شيء.. لا تعرف ما سيكون ولا مصير مدخراتك في المصرف لو كانت عندك مدخرات، ولا كم قرص طعمية ورغيفًا يستطيع راتبك شراءها غدًا. الاقتصاد يسيطر عليه مجموعة هواة لا يعرفون عن الاقتصاد أكثر مما تعرفه جدتك. ممكن أن ينخفض الدولار إلى عشرة جنيهات أو يثب إلى خمسين جنيهًا. لا يمكنك وضع أي خطط مستقبلية. يمكن أن يتمكن أولادك من الحياة ويمكن أن يعانوا شظف العيش. لكنك تشعر من معدل انحدار المتوالية أن الخطوة القادمة بعد أربعة أعوام هي الخيام في الصحراء وقوافل الأمم المتحدة التي توزع معونات القمح.
فيتا ديستابيليس وأنت ترى كل هذه الأحلام تنكمش إلى شبه دولة بتعبير رئيس الجمهورية نفسه، وفيتا ديستابيليس وأنت تسمع وترى كل يوم استشهاد شباب من خيرة شبابنا في سيناء، مما يدل على أن الأمن لم يستقر قط.
فيتا ديستابيليس وأنت تشاهد فيلمًا سينمائيًا ليس من حقك أن تشارك فيه أو تبدي رأيك.. عليك أن تقبل ما تراه وتتابع المشاهد في صمت.. لا يوجد فيشار أو مثلجات بسبب الغلاء للأسف، ولو رفعت صوتك محتجًا على أحداث الفيلم، فلربما تجد نفسك في السجن، أو تمزقك اللجان الإلكترونية، فإذا فكرت في مغادرة السينما فأنت غير منتم.
لربما كانت هناك خطة دقيقة محكمة لكل ما نحن فيه، ولأننا ضمن التفاصيل الصغيرة لا نرى ولا ندرك الصورة الكاملة التي يراها من ينظر من بعيد، ولكن معنى هذا أن جيلين قد انسحقا فلن يعيشا حياتيهما، وهو خيار قد نقبله لو كانت هناك شفافية ولو عرفنا بالضبط إلى أين نتجه، ونقبله لو كان ساريًا على الكل. بالتأكيد ليست المعاناة موزعة بالقسطاس على الجميع. هناك فئات تمضي أسعد فترات حياتها وأخصبها هذه الأيام، وتكون ثروات حقيقية. وأفراد هذه الفئات هم من سيرون هذا المقال جريمة ويطالبونني بالصمت.
هذا كلام معقول.. لذا سأصمت وأكتفي بأن أردد كلمات لاتينية بسيطة تقول (فيتا ديستابيليس).. هذا حقي يا أخي.