قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, January 23, 2018

سيمفونية المقصلة - 3


رسوم الفنان طارق عزام

في الأيام التالية – لك أن تتصور هذا – صار لرأس الأخت دومينيك حضور ثقيل مرعب في المختبر. للحظات يخيل لك أن هذا رأس أقيم حوله مختبر.

كان من الواضح أنها تسمع وترى وتفهم.. فقط هي عاجزة عن الكلام، وكان النظام الذي ابتكره د. رانفييه محكمًا فعلاً.. الدورة مستمرة بشكل صناعي دائم وتنقية السائل مستمرة.. لا أعرف كيف تنتهي حياة هذا الشيء، لكني أعتقد أنه باق للأبد.

كان هذا يثير الكثير من التساؤلات الميتافيزيقية.. وقد تساءل الشاب في رعب:
«هل يعني هذا أن الروح حبيسة هذا الرأس؟ لماذا لم تغادر الجسد لحظة قطع الرأس؟ وكيف يمكن أن تغادر هذا الرأس يومًا؟ لا يمكن لشيء من لحم ودم أن يكون خالدًا، ولكن كيف يمكن أن تموت هذه؟»

قال العالم في إصرار وعناد:
«لا توجد روح.. هذه تفاعلات كيميائية وطالما بقيت مستمرة فلسوف يظل هذا الرأس حيًا»

كان الرأس منهمكًا في لعق شفتيه كالقطة التي انتهت من التهام فأر. والحقيقة أن العالم لم يقاوم بعض الإغراءات مثل أن يضع قطرات من الخمر على الشفتين. بالطبع لن يحدث ابتلاع لكن تأثير القطرات وصل لرأسها بالتأكيد، وبالتأكيد تذوقتها.

المشكلة بالنسبة للشاب صارت ضميرية..

أولاً تحولت حياته إلى حشد من الكوابيس، وصار يخشى ساعات الليل لأنه لن يجرؤ على النوم ليرى ما سيراه في الحلم، ثم أنه كان يشعر بأنه يهوذا وأنه يحمل آلام وخطايا الكون كله على كاهليه. كان منبهرًا بالبروفسور، وقد كان يجد في خدمته لذة عظمى، لكن الأمر اليوم تحول إلى شيء مريع.. صار يكره ساعات النهار التي ستقوده إلى المختبر حيث ينتظر الشيء على المنضدة جوار الشمعة.

يكره رائحة المختبر، ويكره الإضاءة الخافتة ورائحة السائل اللعين الذي يستخدمونه في الدورة الصناعية.

في النهاية قرر أن يترك خدمة البروفسور.. لم يكلمه ولم ينذره أو يطلب ما بقي له من مال. فقط كف عن الذهاب إلى المختبر وترك البروفسور يبحث جاهدًا عن شخص يساعده.

لكن هذا لم يبعد الكوابيس..

لم يبعد الشعور بالذنب والشعور بأنه هرطيق..

لم يبعد أسوأ الاحتمالات التي خطرت له.

هكذا جاء اليوم الموعود.

كان يملك مفتاح المختبر.. وكان يعرف مواعيد خروج البروفسور. لذا أحضر زجاجة من الكيروسين وبعض الكبريت.. تأكد من أن أحدًا لا يراه، وكانت الساعة الثامنة مساء.. وقت ذهاب البروفسور إلى الحانة. فتح الباب ووقف يشهق الهواء الفاسد..

كان الرأس هناك، وقد حرص على أن يلتف بعيدًا عن مجال رؤيتها لأنه لن يجسر أبدًا على مواجهة عيني كائن يعرف أنه سيحترق.

بدأ يسكب الكيروسين حول المنضدة وفي كل أرجاء المكان. وشعر بأن الرأس يحاول الالتفات في المكان الذي وضع فيه. لن تتألم إلا عندما تصل النار للرأس، أما الباقي فلا توجد أعصاب ولا أطراف. لن يكون هناك ألم. سامحيني يا فتاة.. عندما تتحقق لك الراحة النهائية في التراب ستدركين أنني فعلت هذا من أجلك..

وقف يرقب المشهد.. بقيت النار كي تكتمل اللوحة المخيفة التي لن تفارق خياله أبدًا.

***************

هكذا اعتاد رمزي أن يزور بريجيت – التي يعتقد أنها كذلك – كل ليلتين أو ثلاث ليال. هناك يجتاز الحديقة فيتواثب الكلب حوله في مرح.. لقد صار من أبناء الدار أو السيد الوحيد..

هناك كانت تنتظره عند المدخل فيلثم شفتيها بطريقة عملية عابرة. لو أبدى حرارة أكثر من اللازم لنهرته. كل شيء معها رسمي متخشب حتى القبلات، لكنه برغم هذا سعيد معها..

وفي الداخل كانت تعد عشاء بسيطًا يتناولانه جوار المدفأة، أو تدعوه للخروج في سيارتها إلى ناد ليلي أو مطعم ما.. باريس في الليل تبدو كمهرجان بصري ساحر. لكنك لو كنت وحيدًا تمنحك باريس أتعس لحظات ممكنة، بينما لو كنت عاشقًا فأنت على شفا أن تمسك بالسعادة..

قالت له وهي تجرع جرعة من النبيذ الفوار:
«أنا سعيدة بلقائنا.. ولهذا سأقدم لك هدية صغيرة»

«وما هي؟»

«اسمي بريجيت!»

نظر لها في ذهول.. لا يبدو أنها تمزح أو تكذب، ولم يكن يعرف من قبل أنه من الشفافين.. صدفة غريبة بحق..

انفجرت في الضحك لدى رؤية التعبير الأحمق على وجهه، وقالت وهي تشرق بالنبيذ:
«يا لدهشتك!… أنا لا أعبث بك.. كل هذا حقيقي وقد بدأت أعتقد أنني أميل لك»

شعر بقلبه يخفق.. الإضاءة خافتة والأحلام طفلة تعوي تبغي الدفء والغذاء..

قالت بريجيت:
ـ«أنت لم تعرفني بما يكفي.. لا تعرف مئات الأشياء عني، ورهاني هو أنك لن تصر على معرفتي عندما تعرف كل شيء..»

«هذا مستحيـ…»

قالت ضاحكة:
ـ«يا لحماسة العرب..!… كنت أدرك أنك ستقول هذا.. وأدرك كذلك أنه غير صحيح»

ساد الصمت، وظل يرمقها وهو يعبث بالسكين في قطعة الخبز. ليس هذا أفضل وقت يقابل فيه المرء فتاة مولعة بالغموض تلعب هذه الألعاب طيلة الوقت..

ترى ماذا تدارين يا فتاة؟

***************

الفتى لم يجد الوقت الكافي ليفهم..

لم يشعل الكبريت..

فجأة شعر بأن ثقلاً هائلاً يهوي على رأسه.. أصدر أنينًا واستدار للخلف ليجد أن البروفسور رانفييه يحمل مطرقة هائلة، ويتأهب لتسديد الضربة الثانية..

لم يستطع أن يستكمل فهم المشهد.. الجنون في العينين في ضوء الشموع.. العرق الذي يغمر الوجه.. تعبير الكراهية المفترس… كان قد سقط أرضًا قبل أن يفهم..

«الخنزير!»

ووجه البروفسور ركلة إلى خاصرة الفتى، ثم أطلق سبة أخرى:
«يريد هدم أهم كشف عرفه العلم..»

كان البروفسور يتكلم، وهو يتجه إلى رف الأدوات على الجدار.. بحث حتى وجد منشارًا عملاقًا.. ثم بحث عن زجاجة دواء مخدر..

لم يكن يعرف ما يقوم به.. لكنه كان يفعله..

فقط كان يدرك أن العينين أمرتاه.. الرأس المستقر في الوعاء وسط الخراطيم نظر له.. وهذه النظرة كانت كافية…

الليلة كانت أطول ليلة في تاريخ البشرية.. وكانت أبشع ليلة كذلك…

بالمنشار قطع رأس الفتى المخدر لكنه تخلص منها في القمامة. ما فعله هذه المرة هو أنه قام بتثبيت دورة الخراطيم إلى جسد الفتى… استغرق هذا عدة ساعات..

وضع الشموع من حول الجثة وجلس على الأرض وقد تلوث قميصه ووجهه بالدم، وكان يلهث… لحسن الحظ أن الضربة جاءت على الرأس فلم يتأذ الجسد كثيرًا..

دومينيك.. أنا فعلت ما أمرت به..

كان يقولها وهو ينقل رأس دومنيك بحذر ليثبته فوق الجسد العضلي للفتى…

يُتبع