سوف يستغرق الأمر وقتًا طويلًا جدًا قبل أن يعرف الناس من أين جاء التآكل.
خمسون يومًا لا أكثر، لكن قد يتبدل العالم ويتغير كل شيء.. وأنا أجلس هنا في هذا الوكر الضيق أنتظر النهاية ولا أعرف إن كانت ستأتي حقًا، ومن أية جهة؟ وبأية طريقة؟
أعتقد أن كل شيء بدأ في يوم جمعة هادئ عندما كان الناس عائدين لبيوتهم لتناول الغداء، وقد انتهت صلاة الجمعة منذ ساعة.. لابد أن أول الضحايا كان ذلك البقال العجوز. كان الزبائن يتزاحمون عنده ويكلمونه وفجأة بدأ وجهه يتآكل.. وبدأت عظامه تبرز للعيان.. ثم هوى على الأرض وثمة شيء كأنه بخار أخضر ينبعث منه، وفي اللحظة التالية أدرك الزبائن المذعورون أنهم ينظرون إلى هيكل عظمي تكسوه الثياب.
رسوم فواز |
لم يصدق أحد ما حدث حتى تهاوت الضحية الثانية خلال ثلث ساعة.. ثم الضحية الثالثة والرابعة...
هرع الناس إلى أجهزة المذياع والتلفزيون يبحثون عن أنباء.. يبدو أن هناك حوادث مماثلة في أكثر من مكان بالقاهرة.. ثمة شيء غير مفهوم.
يبدو أن فريقًا من منظمة الصحة العالمية جاء إلى مصر على وجه السرعة. بعد يوم وجد العلماء أن هناك حمضًا نوويًا وجزئ بروتين يملآ الأنسجة الباقية من الضحايا، وقد استطاعوا نقل العدوى لحيوانات التجارب بحقنها بهذا الجسم المبهم.. وخلال ساعات كان العالم قد عرف أن هناك فيروسًا مجهولًا جاء من مكان ما.. فيروسًا يقضي على ضحاياه خلال دقائق، وهذا عن طريق إذابة الأنسجة العضوية كلها.
ما كان يحتاج إلى أعوام في الماضي صار يحتاج إلى دقائق في عصر أجهزة الكمبيوتر الجديدة وكل ما صرنا نعرفه عن الهندسة الجينية.. لقد وجدوا الفيروس واستطاعوا تتبع تركيبه الجيني الذي يحوي قواعد لم يعرفها العلم من قبل.. قواعد غير أرضية.. وتذكر الجميع ما تنبأ به العلماء منذ دهر أن اللقاء الأول مع الكائنات الفضائية لن يكون لقاء مع كائن أخضر له هوائي على رأسه، بل هو على الأرجح سيكون مع كائنات وحيدة الخلية كالبكتريا أو لا خلايا على الإطلاق كالفيروسات.. وسرعان ما صار اسم الفيروس الجديد هو Erosion أي (فيروس التآكل).
من أين جاء؟ كيف هبط على كوكب الأرض؟ لا أحد يدري.
فقط عرف الناس أنه سريع جدًا.. ينتقل بسرعة جهنمية محدثًا نتائج وخيمة. يبدو أنه ينتقل بكل السبل المعروفة.. بالفم.. باللمس.. بالاستنشاق.. بالنشاط الجنسي.. بالحقن.. بلدغ الحشرات.. حتى قال أحدهم مازحًا إنه ينتقل بالنكات البذيئة. قال هذا طبعًا قبل أن يسقط ميتًا ويذوب.
التآكل في كل مكان.. إنه يزحف قادمًا من قلب المدينة.. يجتاح أحياء بأكملها.. هناك شقق كاملة صارت مغلقة بلا أحياء بعد ما ذاب قاطنوها.. حافلات توقفت في وسط المدينة؛ لأن السائقين لاقوا نهايتهم.. مدارس لم يعد فيها أحياء.. لقد ضرب الفيروس بسرعة شديدة جدًا قبل أن تضع أية جهة سياسة لمقاومته.
أنا حي.. لا أعرف السبب ولا لماذا لم أمت، لكن يصعب أن أقول إنني سعيد الحظ، عندما أنظر من الشرفة فأرى كل هذه الهياكل العظمية المغطاة بالثياب ملقاة في كل مكان.. عندما أتذكر أن زوجتي لم تعد من العمل.. لم تعد بعد ثلاثة أيام.. وعندما ذهبت إلى هناك لم أرَ إلا هياكل عظمية ترتمي على المكاتب.
ازداد الأمر سوءًا عندما انقطع إرسال المذياع والتلفزيون فالهاتف.. صرت معزولاً بالكامل، وعرفت أن ذات السيناريو يحدث في أرجاء القاهرة.. من يدري؟ ربما أنا الشخص الوحيد الحي، لكن تصور هذا صعب طبعًا.. لسنا في فيلم سينمائي هنا، وبالتأكيد هناك أحياء في أماكن أخرى لكن كيف أجدهم؟
رسوم فواز |
إن مَن ماتوا سعداء الحظ بالتأكيد.. لم يعرفوا أنهم يموتون، بينما أنا أرتقب وأرتجف ذعرًا وأنتظر الموت دقيقة بدقيقة.. والسؤال الأهم الذي يساوي الملايين هو: لماذا ظللت حيًا حتى الآن؟ شيء ما حماني طيلة هذا الوقت، وعليَّ أن أحافظ عليه.