قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, February 2, 2018

هو يحب يسرا



لسبب معين لا تلاقي مجموعات القصص القصيرة في مصر نفس حظ الرواية، وهذا واضح تمامًا من الناشرين الذين يطلبون روايات فحسب. لا شك في أن القصة القصيرة فن أكثر تكثيفًا ويطالب المؤلف بالإحكام والدقة، حيث يتحرك فوق قضبان ضيقة لا يسهل الخروج منها. بينما الرواية بطبعها متساهلة تتيح الكثير من الحريات في الشكل والحجم والمواضيع، ولعل هذه الحرية الزائدة مصدر صعوبتها.

لا شك في أنني من المنبهرين بكتابات أيمن الجندي، وبصراحة لا أعرف السبب الأقوى: هل هو ارتباطي القوي جدًا به منذ سني المراهقة، بحيث صار أنا آخر، أم أنني تربيت على عالمه مع طول الأعوام بحيث صرت أشد خلق الله تذوقًا لكتاباته؟ أم أن السبب هو أن لنا ذات الجذور الثقافية والفنية معًا، والمقدمات الواحدة تقود لنهايات واحدة، فهو لم يخفِ يومًا أنه من المعجبين بكتاباتي.

مؤخرًا صدرت عن دار (دلتا للنشر والتوزيع) مجموعة قصص قصيرة لأيمن الجندي؛ معظمها مقالات قصيرة  نشرت من قبل في جريدة المصري اليوم، على مدى أعوام طويلة. إن لأيمن الجندي مقالاً قصيرًا يوميًا في المصري اليوم، وهذا خلق كمًا هائلًا من المقالات المتراكمة عن كل شيء تقريبًا، وهذه المقالات تغري بجمعها في كتيبات. هنا تبرز عيوب هذا النوع من الأدب، حيث يتحول الكتاب إلى لمحات قصيرة لا يجمع بينها شيء.. لاحظ أنها مقالات قصيرة لا تتجاوز كلمات المقال خمسمائة كلمة. لكن أيمن الجندي حرص على أن يكون انتقائيًا.. المجموعة الحالية مثلًا هي القصص القصيرة فقط، ولا شك أن هناك نوعًا واضحًا من التجانس من حيث العوالم والموضوعات.

منذ فترة طويلة جدًا لم  أكتب مقدمات لكتب أو مجموعات قصصية، لأنني في كل مرة أتلقى الشتائم ممن لم يرق له العمل الذي كتبت عنه، لكن بالطبع عندما طلب مني أن أكتب مقدمة لهذه المجموعة القصصية لم أستطع الرفض أو الاعتذار، ثم إنني أحببت أن أكتب عن هذه المجموعة أصلاً.  كتبت في المقدمة:

لم أكتب عن أيمن الجندي بعد صداقة دامت أربعين عامًا إلا كلمات معدودة. فطنت لهذا في دهشة، ثم تذكرت أنني لم أكتب حرفًا عن وفاة أبي مثلًا. الذكريات المهمة أو عظيمة الأثر تكون دائمًا أكبر من الكلمات، ونحن نفضل أن نعيشها ولا نكتب عنها. في النهاية تظل الكلمات عاجزة.. يرتجف العاشق أمام عيني حبيبته القناصتين فيهمس: «أحبك»، ويبكي الأب وهو يهيل التراب على ابنيه الوحيدين فيهمس: «أنا حزين». دون أن تحمل الكلمات معشار حرارة العاطفة في القلوب.. هي مجرد أصوات باللسان والحلق، لا تعبر عن الكثير.. بل لا تعبر عن أي شيء تقريبًا.

أعتقد أن تراث الذكريات الذي أملكه بصدد أيمن الجندي هائل لدرجة أنه يهشم بعضه بعضًا. بعض الذكريات تحجب ذكريات أخرى أو تسحقها، وبعضها من الأهمية بمكان بحيث تنسى وجوده. لهذا كلما حاولت الكلام عن هذا الصديق، وجدت ما كتبته أو قلته أقل بمراحل مما كنت أحسب أنني سأكتبه منذ البداية.

لو تكلمنا عن الشخصية من الخارج، فهو أستاذ جامعي طنطاوي في العقد السادس من العمر، وهو على فكرة طبيب بارع لحد كبير،  ولديه موهبة في التدريس تجعله قادرًا على تبسيط الأمور، لكنه ممن أصيبوا بلعنة العيادة غير الموفقة، مما جعله يغلق عيادته بعد عامين من الانتظار الممل وينسى الأمر برمته. له ابنتان ومتزوج من أستاذة بكلية العلوم.

أيمن الجندي خليط غريب من حب الحياة لدرجة العشق.. والتدين والحزن والضوضاء والصخب والأرق والتصوف والشعر والتقلب والعصبية.. خليط يصعب أن يتكرر. أن تمتزج دراسته المدققة للقرآن الكريم مع قصائد الشابي العاطفية مع قراءة متمهلة مدققة في الأدب الروسي قبل الثورة، وحفظ شبه تام لروايات سومرست موم، وتأثر بالغ بكتابات أحمد بهجت، ثم أضف لهذا كتابات سيد قطب والإمام أبي زهرة مع أغاني فيروز، مع قراءاته في علم التصوف، مع دراسته الطبية وعمله في سلك التدريس الجامعي، وضع على السطح كل أغاني فيروز وأفضل أفلام السينما العالمية.. تحصل من هذا الخليط العجيب على أيمن الجندي.

وعلى طريقة العقاد في التحليل، سوف نكتشف أن ضعف البصر الذي لازم أيمن الجندي منذ طفولته جعله أقل فهمًا للفنون التشكيلية، زاهدًا في تأمل اللوحات واللقطات الفوتوغرافية. ولسوف ندرك أن نشأته بين أب مستشار وأم محامية جعلته مرهف الحس تجاه العدل.. كما أنه ورث منهما التدين الشديد، وقد استطاع على ما أعتقد أن يقهر معظم شكوك الشباب إياها وتكيف مع نفسه. لقد كان القرآن الكريم نبعًا صافيًا هنالك في الغاب يرده ليشرب منه كلما شعر أن حياته تتلوث.

ورث من الأدب الروسي تعاطفًا بالغًا مع الفقراء والمهزومين. إنه شهم لدرجة الاندفاع والتهور، ويمكن أن يمنحك عينيه لو أردت، ثم يلوم نفسه مرارًا على تسرعه في هذا القرار الخاطئ.

عرفته لفترة طويلة منذ سني المراهقة عندما اكتشفنا بالصدفة أننا نحب ذات الفتاة، وأذكر جلساتنا الطويلة نقرض الشعر على الترعة في قرية قحافة – عندما كانت أرضًا قفرًا – ودخلنا ذات الكلية معًا، ومن الغريب أننا تخرجنا لنعمل في ذات القسم بنفس المستشفى معًا.. هذه صداقة لا يسهل التعبير عنها بكلمات ما لم تكن أنت شكسبير.

قرأت معظم هذه القصص التي بين يديك، وأعرف كيف أنها أخذت منه وقتًا هائلًا وجهدًا مضنيًا. إنه موسوس يقضي الوقت في حالة حمل بالفكرة وهنًا على وهن، ثم تبدأ عملية الولادة الشاقة.. يصوغ الجملة عدة مرات فلا يرضى عنها إلا عندما تبرق كسلاسل الذهب. ولكن النتيجة تستحق بالفعل.. وأعتقد أنك ستجد أيمن الجندي كما وصفته لك في كل جملة من هذه المجموعة. سوف تجد سخريته وتصوفه ورومانسيته وتدينه وتعاطفه مع المعذبين وتقلب طباعه.. و.. و.. كل شيء.

شكرًا لك عزيزي أيمن على هذه المجموعة من القصص. قرأتها متفرقة لكن قراءتها معًا لها مذاق خاص بالتأكيد.