قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, July 15, 2009

مروة والتعصب

الدستور - 14 يوليو 2009

Alamy

برغم بشاعة المشهد، فإنني أضحي بأي شيء كي أكون موجودا لحظة الجريمة التي ارتكبها ذلك العنصري المريض، والتي مزق فيها الأم الرقيقة «مروة الشربيني» في قاعة المحكمة. السبب هو أنني لا أصدق ما كتبته الصحف ولا أفهم كيف تركه رجال الشرطة في المحكمة يسدد للشهيدة 18 طعنة، ثم ينبري إلي زوجها فيمزقه.. 18 طعنة؟ أنا أحضرت المشط ووسادة وجربت تسديد 18 ضربة للوسادة وحسبت الوقت.. نصف دقيقة.. لا يمكن أن يقل الوقت عن ذلك ما لم يكن الرجل قد تحول إلي منشار ترددي. نصف دقيقة وقت طويل جدا لو تابعته على عقارب الساعة، ويسمح باستدعاء الجيش الألماني كله لمنع الجريمة، لكن هذا الإبطاء كان يسمح للقاتل فعلًا بأن يسدد طعناته ويحلق ذقنه.. ويشرب كوبا من الشاي وسيجارة لو أراد.

ثم هذا المقت كله.. حسبنا هذا النوع من الجرائم مقصورا علي «سيد جرادة» العامل الذي يعود ليجد زوجته لم تعد طعام إفطار رمضان بعد، فيذبحها ويحرق جسدها.. إنه مجرد من سيطرة قشرة المخ وما زال يفكر على مستوى المهاد التحتي، ولا يهتم بالعواقب ما دام قد «فش غله» اللحظي. أما أن نري جريمة بهذه البشاعة والقسوة في بلد مثقف متحضر، شفي من عقده كما نعتقد فأمر محير.. غريب.

هل هناك تواطؤ؟ يصعب على المرء تصديق هذا برغم ما توحي به عشرات المقالات في كل مكان، خاصة بعدما تعاملت الصحف الألمانية مع الخبر بخفة وبعد أسبوع كامل من الحادث، حتى تساءل ألمان كثيرون عما كانت ذات الصحف ستفعله لو أن «مروة» هي التي قتلت الألماني؟

على الأرجح سوف يعاقب القاتل بالسجن المؤبد، ومعنى هذا أنه سيخرج بعد أعوام لحسن السير والسلوك. سوف يستمتع به المساجين كثيرا، لكن هذا غير كاف ولا يشفي غليلنا.

معظم المصريين الذين يعودون من ألمانيا يقولون إن النازية لم تمت بعد كما نتصور نحن، وإن معظم الألمان يحملون تقديرا خفيا دفينا لهتلر، لكنهم بالطبع لا يعلنونه أبدا ويدارون عليه بالكثير من العصبية وإظهار المقت والاشمئزاز، لدرجة أن تصوير فيلم سينمائي فيه صليب معقوف قد يجلب عليك المتاعب (تعرض فريق عمل فيلم فالكيري للخطر فعلًا). إنهم كالرجل الذي لا يكف عن شتم ممثلة واتهامها بالخلاعة، لأنه يعرف في قرارة نفسه أنه يشتهيها بقوة.

لم أصدق هذا الكلام لكن الدلائل كثيرة، وقصة مروة ليست الأخيرة على كل حال. تقول جريدة أمريكية: في ألمانيا ارتفعت جرائم العنف العرقي 15% من عام 2005 إلى عام 2006.. وقد وقع 17597 حادثا عام 2006 وحده. بين كل مواطنين اثنين (بالذات بين من كانوا أبناء ألمانيا الشرقية) هناك واحد يعتقد أن النازية كانت لها جوانبها الطيبة. ارتفعت الجرائم العرقية 40% إذا ضممنا لها تعليق الرموز النازية والهتاف بها. ثلثا المعتدين هم من الشرق وعمرهم أقل من 21 سنة، ويعتقد الساسة هناك أنه تأثير الشيوعية المدمر. 46% من الألمان في الشرق يعتقدون أن ألمانيا فيها أجانب أكثر من اللازم، ويبدو أن الحكومة الألمانية تنوي زيادة عدد برامج تبادل الطلبة، لتنمية روح التسامح وقبول الآخر بين الشباب.

تقول جريدة أخري: إن الألمان يتعلمون عدم قبول الآخر في سن مبكرة، بينما هناك 7.5 مليون أجنبي في ألمانيا ثلثهم أتراك. كل شاب ألماني تم سؤاله قال إن الأجانب كثيرون جدا في ألمانيا. واحد من كل تسعة يكره الإسلام، وواحد من كل 13 مراهقا ارتكب عملًا إجراميًا ما ضد الأجانب. ويعتقد المراقبون أن السبب هو نجاح الأحزاب النازية الجديدة في عدة دوائر انتخابية، كما أن الحكومة الألمانية ليست لديها سياسة واضحة لمحاربة النازية الجديدة.

في 28 مايو من كل عام تحتفل الجالية التركية في ألمانيا بذكرى حادث مروع وقع في زولينجن. ماذا حدث في زولينجن ليلة 28 مايو عام 1993؟ لقد هاجم أربعة شبان من حليقي الرءوس النازيين الجدد منزلًا لأسرة تركية آمنة، وأشعلوا فيه النار، مما أدى لاحتراق خمس نساء وجرح الكثيرين، ومن بينهم رضيع. كانت أعمار القتلة تتراوح بين 16و 23 سنة. وكما هي العادة التي تبعث علامات استفهام، لم يشارك هلموت كول في طقوس تأبين الضحايا. عام 1995 حكم على القتلة بالسجن.. سجن قاس جدًا وطويل جدًا مدته بين 10-15 سنة، وهذا معناه أنهم جميعا خارج السجن الآن، وعلى الأرجح يعاملون كأبطال، فلم يبق من الحادث سوى ذكرى أليمة ونصب تذكاري مكان الحريق.

عام 1991 حدثت أعمال شغب في (هويرزفيردا) أوجبت إخلاء مأوى يقيم فيه طالبو اللجوء السياسي، وفي أغسطس عام 1992 حاصر الألوف بيتًا في «رشتوك لختنهاجن» وألقوا قذائف المولوتوف على أسرة فيتنامية فر أفرادها بمعجزة. وبعد هذا بثلاثة أشهر سقطت قنبلة على مجموعة من الأتراك فقتلت ثلاثة.

بعد حادث زولينجن بأسبوع وقع هجوم على منزل به عدد من الأجانب وقد تم إحباط الهجوم في آخر لحظة. إن الهجمات العرقية ضد الأجانب قد قتلت 135 أجنبيًا منذ توحيد ألمانيا. وقد نجح اليمين في استصدار تشريع برلماني يخفض عدد طالبي اللجوء السياسي لألمانيا إلى أقل عدد ممكن. ألمانيا -إذن- تتجه لليمين بقوة، وقد كان ذنب (مروة) أنها وجدت في الزمان الخطأ والمكان الخطأ. دعك من الأزمة الاقتصادية التي خنقت الغربيين، وجعلتهم يشعرون بأن الأجانب جاءوا ليسلبوهم فرص العمل والقليل الباقي من الرزق.

ما فعله ذلك المتعصب هو أنه لم يتصور أن يوجد كائن آخر يختلف عنه في كل شيء ويظل حيا.. ما دامت لیست مثله فهي لا تستحق الحياة. ولو نظرنا لأنفسنا في المرآة لوجدنا أننا نكرر هذا السيناريو أكثر من مرة يوميا.. الطبيبة (ماري) التي دخلت نقابة الأطباء وقالت (سلامو عليكم) فلم يرد أحد، لأنها تعلق صليبًا على صدرها، فوقفت لا تدري هل هي نقابة الأطباء أم نقابة الأطباء المسلمين؟ ما حجم غضب المسلمين على ذبح الدكتور «بيرزي التحال» في عيادته بديروط على يد متطرفين؟ أنا عن نفسي عرفت الخبر بصعوبة من الصحف اليسارية.. ماذا عن الطالب الماليزي الحائر الذي يسخر منه سائقو التاكسي ويجعلونه يدفع أضعاف ما يدفعه المصري ويشتمونه بالعربية التي يفهمها؟ ماذا عن زفة العيال التي تمشي وراء الفتى الأفريقي تقذفه بالطوب لمجرد أن لون بشرته مختلف؟ بل ماذا عن حرق مشجع الزمالك حيا على يد فتية لا يتصورون أن يوجد شيء غير أحمر في الكون؟ كل ما فعلته إسرائيل معنا هو أنها مارست التعصب على نطاق واسع وبطائرات إف-16 والقنابل الفوسفورية.. نحن لسنا يهودًا فلا يحق لنا أن نوجد.

التعصب.. أقذر وأغبى عادات الإنسان منذ بدء الخليقة.. تكرار سيناريو البطة السوداء للأبد. فلتبق «مروة» في ذاكرة كل واحد من الشعب المصري كملاك دفع ثمن ما آمن به، ولنتذكر ما يفعله التعصب بنا وبسوانا.