قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, July 10, 2009

لعبة لاثنين


pixabay.com

أحزنني بشدة حادث ذبح تلك الزوجة والأم المصرية المحجبة الوديعة على يد خنزير ألماني عنصري متعصب. أعتقد أنها من الحوادث القليلة التي أشعرت كل بيت في مصر بأنه فقد واحدة من بناته. أمقت التعصب بجنون.. بل إنني متعصب في كراهيتي للتعصب، وهذا الحادث يمثل كل شيء أمقته وأحتقره في الحياة.

هناك دائمًا طرف يحتكر الصواب، ويؤمن أن الطرف الآخر الذي لا يشبهه آثم، ووجوده على قيد الحياة جريمة في حد ذاتها، وما فعله ذلك الخنزير الألماني هو أنه رأى أن المرأة المحجبة لا حق لها في الحياة لأنها لا تشبهه، وهو ما نكرره نحن يوميًا على نطاق أضيق.

عرفت دومًا طرفي الطيف وتعاملت معهما.. أذكر أن هناك من علّق على قصص (ما وراء الطبيعة) في شك قائلاً: "لماذا لا تضع آيات قرآنية وأحاديث شريفة في القصة؟ هه؟!". السبب ببساطة هو أن السياق لابد أن يتطلب ذلك، دعك من المرة الوحيدة التي نشرت فيها نص آية قرآنية (نسختها من المصحف نسخًا بداعي التدقيق) فأخطأت المطبعة في جمعها، وما زالت القصة في الأسواق بما فيها من خطأ شنيع مقترن باسمي طبعًا، ولهذا قررت ألا أنشر أية آية مرة أخرى أو أكتفي بذكر رقمها واسم السورة. على الطرف الآخر ذكرت في إحدى القصص أن (رفعت) صلى الفجر، فقال لي صديق آخر في ذكاء الخبير: "كف عن تملّق القراء! هذا السطر موضوع بالذات لاستجلاب مرضاتهم، ولا أشك في أن هناك قارئًا طلب منك ذلك فكتبته!". هكذا تجد تربصًا وتحرشًا من الجهتين.. أنت لست متدينًا بما يكفي.. أنت لست علمانيًا وشجاعًا بما يكفي.

يشكو اليساريون دومًا من تعصب الطرف الآخر واحتكاره للحقيقة، لكن هذا الكلام يصلح في الاتجاهين معًا. فلو أنك أبديت نوعًا من الإعجاب بالحجاب فأنت قد وثبت وثبة واسعة للخلف وللماضي.. والأسوأ لو أنك أبديت إعجابًا بالنقاب.. وهكذا تجد أن لدينا على الطرف الآخر (أيمن ظواهري) آخر، لكنه ليس ملتحيًا ويدخن الغليون ويقرأ (كافكا) و(سارتر)، ويتحسس مسدسه كلما سمع كلمة (تدين). أذكر غضبة المثقفين على المخرج العظيم (صلاح أبو سيف) عندما قدم فيلم (فجر الإسلام). (صلاح أبو سيف) ذو ميول اشتراكية لم يخفها يومًا، لكن من حقه أن يعجب بموضوع ذي صبغة دينية أو يجد في أيام الإسلام الأولى ما يروق له من تحيز للمهمشين والفقراء.. هذا من حقه، لكنهم لم يغفروا له هذا قط واعتبروها سقطة مروعة، واعتبروا الفيلم أسوأ أفلامه.. هناك دومًا تهمة (الرجعية) أو (الانحياز الأيديولوجي).. والحقيقة أن لعبة الحرية يجب أن تمارس بنفس القوانين مع الفريقين، وأول من يستخدم شيئًا غير عقله وقلمه ولسانه يطبق على نفسه قاعدة (لا حرية لأعداء الحرية).

لست ذا ثقافة دينية متبحّرة، ولا أحب أن أتدخل فيما لا أعرفه جيدًا. إن الطب والقانون والدين مجالات يعتبر كل إنسان نفسه خبيرًا فيها، وهذا يثير غيظي. ولهذا السبب لا أستطيع أن أدلي برأيي في فرضية النقاب. أستريح كثيرًا للحجاب الشرعي الذي نعرفه والذي يذكّرنا بزي الفلاحة المصرية، فهو يوحي بالنظافة والطهر، وهو بالطبع يختلف عن حجاب جواري السلطان الشائع اليوم، حيث تلبس الفتاة أضيق وأفحش مما تلبسه أية فتاة غربية ثم تضع قطعة قماش مزينة بالترتر على رأسها، وتعتبر نفسها محجبة وتنعي تدهور الأخلاق في المجتمع. بالنسبة للنقاب أميل لرأي ذكي للشيخ الغزالي يقول فيه: لو كان النقاب فرضًا فلماذا يأمرنا الإسلام بغض البصر؟ عن أي شيء تغض البصر في مجتمع من المنتقبات؟ دعك من الأبعاد الإنسانية والأمنية للنقاب طبعًا، حيث يصعب عليك أن تتأكد من شخصية من تتعامل معه.

كانت هذه الخواطر في ذهني، وأنا أحضر حلقة دراسية (سيمنار) عن تشخيص أمراض القلب بالموجات فوق الصوتية، وهو موضوع لا أعرف عنه شيئًا بحكم بُعده عن تخصصي. كانت الأستاذة الجامعية التي تقدم السيمنار منتقبة. كانت بارعة فعلاً وقد جعلت هذا الموضوع المعقّد يبدو شديد السلاسة والمنطقية. أثناء كلامها دوى أذان الظهر فتوقّفت لبضع ثوانٍ وردّدت بعض مقاطع الأذان، ثم عادت للشرح.. هكذا بلا مغالاة أو إفراط.

بعد نصف ساعة لم أعد أتابع ما تقول.. كنت أفكر في عمق: ما هي المشكلة إذن؟ هذه سيدة محترمة تجيد عملها، ومن الواضح أن ثيابها لم تُعقها عن أداء واجبها أو لعب دور مهم في المجتمع.. إنها تعرف ما تتكلم عنه وتنقله بأمانة لمن لا يعرفون.. والنتيجة هي أن تقنية غربية بالغة التقدم تتحول إلى خبرة عادية للطبيب العربي الشاب.

الحقيقة أنك عندما ترى فتاة منتقبة تفترض تلقائيًا أنها لا تؤدي عملها جيدًا أو لا تقدر على أدائه، وأنها تمثُل بالضبط ضد العلم وضد الحضارة. لكن هذه الطبيبة تبرهن لي على أنني مخطئ وأنني -مهما زعمت- لعبت بدوري لعبة التعصب.

من حقها إذن أن تلبس ما تريد وهذا صميم حريتها الشخصية، بشروط أعتقد أنها تحققها فعلاً:
  1. أن تؤدي عملها جيدًا وأن تعرف قيمة العلم وتحترمه؛ فلا تدعو لنبذ الإنسولين من أجل البردقوش، ولا تقضي الوقت في الدعاية لقطرة العيون المستخلصة من العرق والتي تعالج داء الكاتاراكت، بينما كل أستاذ عيون حقيقي يعرف أن هذا كلام فارغ.
  2. أن تكون عادلة وأن تعامل (إيريني) و(فكتور) وتمتحنهما على قدر العلم الموجود في رأسيهما وليس على حجم وشْم الصليب على معصميهما.
  3. ألا تتعالى عليّ باعتبارها ضمنَتْ مكانها في الجنة وضمنَتْ مكاني في النار. يجب ألا تتكلم باعتبار كلماتها مقدسة ما لم تكن تستعمل نصوصًا مقدسة طبعًا.
هل حققت لنا هذه الشروط؟
نعم؟
إذن لماذا الضوضاء بالله عليك؟ ولماذا لا نتكلم عن شيء آخر أكثر نفعًا؟

بالفعل نحن لا نكفّ عن افتعال المعارك والبحث عن المشاكل في كل شيء.. لا نكفّ عن ركل الغبار ليعمي عيوننا. دعنا من النقاب لأنه موضوع ذو حساسية خاصة، ولنتكلم عن الحجاب العادي.. كانت هناك مشاكل عنيفة حول الحجاب فيما سبق، برغم أنك لو لم تعتبره زيًا دينيًا فهو يوشك على أن يكون زيًا شعبيًا للمرأة العربية.

في حفل الأوسكار الذي نال فيه (أ. رحمن) أوسكار أفضل أغنية وموسيقى تصويرية، كان يلبس ثيابًا هندية بالغة الأناقة، والنساء كنّ يلبسن الساري مع لمسة عصرية محببة.. تخيل كم كان سيبدو سخيفًا كالقرد لو ارتدى بذلة السهرة والبابيون مثل الباقين.. بزيه الهندي بدا أكثر أصالة وأناقة وتميزًا.. لا أحد يتكلم عن الهنديات الماشيات بالساري في عواصم العالم، ولا عن سائقي تاكسي نيويورك السيخ ذوي العمامة الضخمة.. لا أحد يتكلم عن طاقية اليهود ولا شيلوار الباكستانيين ولا كلتية السكوتلنديين.. فما هي المشكلة في أن تلبس المرأة العربية هذا الزي الذي يعبّر عن تراثها وشخصيتها وثقافتها؟ وهل تضمن لي أن التخلي عن الحجاب يحقق التفوق ونهضة الأمة واسترجاع لواء الأسكندرونة؟

ومن جديد أنا لا أنحاز إلا لما يروق لي، ولا أحسب نفسي على أي طرف من الأطراف، وهذه هي المشكلة وعليك أن تتحمل النتائج.. أنت لا تصير صديق الجميع أبدًا وإنما أنت مهدد دومًا بأن تخسر الجميع!