قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, July 22, 2009

سبوتنيك والجودة

الدستور - 21 يوليو 2009

Sputnik 1 - Wikipedia

منذ أيام عرضت إحدي الفضائيات فيلما اسمه (سماء أكتوبر) من إنتاج عام 1999، يحكي قصة حقيقية عن ابن عامل المناجم الأمريكي (هومير هيكام) الذي فوجئ بإطلاق السوفييت للصاروخ (سبوتنيك)، ومن ثم قرر أن يكرس حياته لدراسة علم الصواريخ وصار من علماء ناسا.

بصرف النظر عن قصة الفيلم، فالخلفية المهمة له هي ما عرفت باسم (أزمة سبوتنيك) إنها الصفعة التي تلقاها الأمريكان عندما حسبوا أنهم ملكوا كل شيء وعرفوا كل شيء، ليفاجأوا بأن السوفييت سبقوهم إلي الفضاء. كان هذا في الرابع .. من أكتوبر عام 1957.

لقد نجح السوفييت بينما فشلت أول تجربتين للأمريكان في الوصول للفضاء، وقال أحد أعضاء الكونجرس: «لقد افتضحت ادعاءاتنا وظننا أن طريقة الحياة الأمريكية هي سبب التفوق الأمريكي». المشكلة كذلك - في ذروة الحرب الباردة - أن من يرسل أقمارا صناعية للفضاء قادر علي إرسال أشياء أخري.. قذائف نووية مثلاً.

هناك شيء خطأ.. نظامنا التربوي ينتج أغبياء لا يقدرون علي غزو الفضاء.

بعد عام أصدر الكونجرس قانون التعليم للدفاع القومي، وهو برنامج تعليمي من أربع سنوات يصب المليارات في النظم التعليمية الأمريكية. وقد استثمرت أمريكا عام 1960 مبلغ 60 مليون دولار - وهو رقم مرعب إذا تذكرنا حساب التضخم - في مجال التعليم. هذه هي اللحظة التي يعرفها كل أساتذة التربية والمناهج في العالم وفي مصر، وقد حكوا لنا عنها كثيرا.

أمة بالكامل تطلق صواريخ تصحيح المسار بعد ما أدركت أنها كانت - عدم المؤاخذة - تمزح طيلة هذه الأعوام.

وفي يوليو عام 1958 قام الرئيس الأمريكي «أيزنهاور» بتشكيل (ناسا) ومشروع (عطارد)، وبدأت المناهج تتغير بغرض خلق جيل جديد من المهندسين، وبدأ تدريس الرياضيات الحديثة.

هذه الصفعة جعلت الأمة الأمريكية تنظر لنفسها في المرآة، وبخدين محمرين تغير من نفسها، حتي استطاعت أن تنزل أول رجل علي القمر عام 1969 (وهو ما زلنا بعبقريتنا لا نصدقه حتي اليوم ونعتقد أنها الخدعة الكبري).

الآن نترك أمريكا وننتقل إلي مصر بلد النواطير والثعالب والعناقيد.

منذ أعوام وهناك اتفاق علي أن هناك شيئا ما خطأ وأننا مقبلون علي مصيبة، وأننا بحاجة إلي ثورة في السياسة وفي التعليم.. بالطبع لأسباب واضحة انصب كل الجهد علي التعليم. هنا ظهر اختراع شيطاني اسمه الجودة. ولا أعني بهذا أنه اختراع مصري، فالعالم كله يتحدث عنه، لكنه كالعادة يكتسب في مصر مذاقا فريدا. الجودة في كل شيء.. ومعها أخواتها الغامضات: التنمية البشرية.. التطوير.. البرمجة اللغوية العصبية.. سيل من هذه العلوم الغامضة التي لا يمكن الإمساك بها، والتي لا يمكنك أبدا أن تتذكر ما كنت تدرسه فيها، لكن هناك دوما عرض أنيق بالشرائح وقاعات مكيفة، ومحاضر يلبس قميصا قصير الكمين وربطة عنق.. هناك اختصارات لا تنتهي مثل GHHHQU KLDDI RESSSB وهي أسماء مشاريع لا نهاية لها يمولها الاتحاد الأوروبي.. وهناك دوما بناية حديثة ومصعد، وسكرتيرات سرعان ما يتزوجن ويأتي غيرهن، وآلة تصوير مستندات وملفات فيها أقلام، ومذكرات مطبوعة تحوي عبارات براقة مثل (الجودة ليست هي الطريقة.. الجودة هي الهدف).. إلخ.

هناك دوما تهديد بلجنة ما سوف تأتي في يناير لتفتش وتطير الأعناق. سوف تجد الجودة في كل مكان حتى إن لم تكن لها علاقة بالتعليم، كل مستشفى وكل كلية وكل مصلحة حكومية فيها لجنة جودة.

النتيجة أن الجودة والتطوير صار لهما عالمهما الخاص ومؤتمراتهما ومصطلحاتهما، والكل يتحدث عنهما في كل مكان، وصار هذا هدفا في حد ذاته.. بمعنى أنك تدرس الجودة كي تدرس الجودة وليس لأي غرض آخر. إنها طريقة تفكير في حد ذاتها.

حرب أوراق لا تنتهي.. نرجو ملء هذا النموذج.. نرجو ملء هذا النموذج كذلك.. وهكذا.. بعد أسبوعين يصلك النموذج نفسه من جديد لملئه.. تحاول تذكير الجميع بأنك ملأت هذه الورقة من قبل، لكن لا أحد يملك وقتا لسماع اعتراضاتك.

تخطيط في تخطيط ثم المزيد من التخطيط، ثم تخطيط من أجل التخطيط.. حاول أن تتذكر متى بدأ مفهوم الجودة يغزو كل شيء، ومتى بدأ الجميع يفكرون بهذه الطريقة، ثم حاول أن تعرف ما الذي تغير في الأداء.. كل شيء يتم بالطريقة القديمة، وما زال الطلبة يأخذون دروسًا من الصف السادس الابتدائي حتى التخرج.. وما زالوا يقعون في الأخطاء ذاتها، فقط استجدت ظواهر جديدة مثل أن كل الطلبة يكتبون (فتايات وذالك والنقض الفني).

الأمر يذكرني بقوم اجتمعوا لذكر فوائد الصلاة وفضلها، وهذا جميل جدا.. المشكلة أنه لا أحد يصلي؛ لأنه لا يوجد وقت كاف لهذا.

لو أخذنا الطب مثالًا، لوجدنا أن كل مصري عمل في التدريس بالخارج وجد تركيزا هائلاً علي مفهوم الطب المستند إلي الأدلة Evidence-based medicine، وهو موضة العصر إلخ. طريقة التفكير ذاتها مختلفة، ومن يرى الكتب الأجنبية يدرك اهتمامهم الشديد بأشياء مثل التكهن بالحالة، وتحليل اتخاذ القرار، وتوقعات الحياة.. إلخ. وهي أمور لا نهتم بها كثيرا.. طريقة المذاكرة المصرية المعتمدة علي النقاط: «العوامل التي جعلت بونابرت يغزو مصر: 1-.... 2- ......» تتكرر في الكليات، ولهذا يفضل الطلبة المذكرات بينما تراجع الكتاب.

تکلم د. علاء الأسواني عن ظاهرة التدين البديل، وكيف أن المظاهر انتعشت بينما انهارت الأخلاق إلى حد غير مسبوق. ما يحدث الآن على الصعيد التربوي شيء مماثل، فالكل يتكلم عن الجودة والتطوير لكن العملية التعليمية ليست في أفضل حالاتها.

في رأيي أن الطريقة الوحيدة للاستفادة بالجودة والبرمجة اللغوية ومفاتيح النجاح هي أن تكتب كتبا وتعطي محاضرات عنها.. ولهذا لا أتوقع أن تهمد هذه الضوضاء قبل أعوام، عندها سنتساءل عن الوقت الثمين الذي ضاع وكل الأموال التي بددت.

كانت أمريكا جادة فعلا عندما أدركت أن نظامها التربوي ضعيف، وقد استطاعت أن تنهض وتسبق. علينا أن ندرك ذلك بدورنا. وأن نتحرك بشكل جاد بدلًا من تفريغ الأمر من أي مضمون له، وتحويله إلى كلام في كلام يذكرنا بخطب الاتحاد الاشتراكي. والبداية في رأيي يجب أن تبدأ بتشكيل لجنة من خبراء التربية والمناهج وطرق التدريس، وهذه اللجنة تملك صلاحيات شبه مطلقة، ويتقاضى أفرادها مكافآت خيالية.. لم لا؟ نحن نتكلم عن إنقاذ وطن كامل هنا. منذ أعوام كان بعض الشباب في البورصة يتقاضون 18 ألف جنيه للواحد ولما يتجاوز عمر الواحد منهم خمسة وعشرين عاما، وقيل وقتها إننا مضطرون لذلك؛ لأنهم عباقرة ولو لم نفعل ذلك لاختطفتهم اليابان أو الصين. إن أحوال البورصة اليوم تدل على حكمة هذا القرار. فليتقاضَ خبراء التربية مبالغ مماثلة، وليعكفوا على وضع خطة إصلاح تتفق مع أحدث ما توصل إليه العالم، ثم يتم تطبيق هذه الخطة فعلا ولا تتحول إلى أكوام من الورق المنسق جيدا. هذا لو كان صلاح الوطن الهدف طبعا، أما إذا كان الهدف هو تدمير هذا البلد والقضاء على مستقبل العقول فيه، فإنني لأنحني لعبقرية من ينفذون هذه الخطة لأنهم شديدو الكفاءة بالفعل، ويستحقون كل مليم يحصلون عليه.