الدستور - 30 يونيو 2009
الوطن |
هذه الليلة سوف أدعوك على العشاء.. صحيح أن الكثيرين سبقوك ولسوف تكون كالأيتام على مآدب اللئام، ولكن بوسعك دومًا أن تظفر بلقيمة ما.. هات معك سلاطة الطحينة ورغيفين من الخبز، ولا بأس بشوكة وسكين لو كنت ممن يحرصون علي الإتيكيت.
إن المأدبة فريدة وقد أقامها عدد من الكتاب منذ زمن بعيد، والطبق الرئيس هو كاتبنا الكبير (محمد حسنين هيكل). هناك حفل دائم منعقد لتمزيق الرجل وتشويه سمعته وتشكيك الأجيال الجديدة في قيمته.
هيكل ليس ملاكًا وبالتأكيد ليس صنمًا يُعبد، لكنه كذلك ليس الشيطان الرجيم الذي يصفونه ومصدر كل مشاكل مصر الحالية. الرجل كذلك لا يهوى أن يضيع وقته وتتسخ ثيابه الأنيقة وسط الغبار في معارك لا منتصر فيها ولا مجد. حضرت ثلاث ندوات له في معرض الكتاب بالقاهرة، ورأيت تأثيره المغناطيسي الغريب في الحضور، لكني كذلك رأيت طريقته.. كان هناك شاب متحمس مبلل بالعرق يصرخ في جنون لسبب لم أفهمه.. وهو يطلق عبارات الهجوم المختلطة باللعاب في وجه هيكل على بعد خمسين سنتيمترًا أو أكثر قليلًا. لكن هذا الأخير لا ينظر نحوه ولا يعلق أو يندهش أو يغضب أو يخاف.. أنت غير موجود.. أنت لا شيء ما دمت اتخذت الصراخ أسلوبًا والهستيريا قانونًا.. ويبدو أنه مخلص لهذا الأسلوب جدًا لهذا لا أتوقع أن يرد علي هذه المأدبة التي دعا الآخرون أنفسهم لها.
إن هيكل ببساطة إهانة لهؤلاء بثقافته الواسعة وسعة تجربته. يمكنك أن تنمي ملكتك الأدبية وأنت تطالع كتابات هيكل عن السياسة كما يمكنك أن تنميها وأنت تقرأ دراسات جلال أمين الاقتصادية. لم يغفروا له قط هذا النجاح كما لم يغفروا له أنه بصحة طيبة - أعطاه الله طول العمر - وما زال تفكيره ممنطقًا مرتبًا وقد حسبوا أنهم تخلصوا منه فعلًا. لكنه اليوم يجلس أمام الكاميرا ليتكلم بالتفصيل، وكلامه بالغ الأهمية سواء صدقت كل شيء أم مارست الانتقاء، لكنهم ببساطة لا يريدون له أن يتكلم اليوم ولا غدًا، لدرجة أن أحد منتقديه كتب يقول (أستاذ هيكل، لقد أكثرت ولم نعد نطيق حديثك.. لماذا لا تسكت أو تتنحى كما تنحى صديقك؟ وكفى). والسؤال هو :لمن ضمير المتكلم هنا؟ لماذا لا تتكلم عن نفسك من فضلك؟
الاتهام الدائم الذي يلاحق هيكل هو أن قربه من عبد الناصر أعطاه ما لا يستحق من مكانة، وهذا كلام لا بأس به، لكن لماذا يبقى الرجل طافيًا بعد كل هذه الأعوام ومنذ ابتعد عن السلطة عام 1975؟ هل سلطة عبد الناصر كاسحة لهذا الحد وتتجاوز الأزمان والمسافات، لدرجة أنها قادرة على إرغام الناشرين الأجانب على ملاحقة الرجل؟ من ضمن الاتهامات التي وجهت له عندما سجنه السادات وصار غير قادر على الرد تهمة أنه يبيع الكلمة بدولار. لو صح هذا فلماذا يبيع الكلمة بدولار؟ من المجنون الذي يشتري؟
الحقيقة ببساطة هي أن هيكل يستفزهم؛ لأنه برهن على أنه قادر على النجاح دون عبد الناصر وفي مواضيع بعيدة عن عبد الناصر.. كتب عن ثورة إيران وعن الشاه وعن ملك إسبانيا وعن كلينتون وبوش وتاتشر و.. وما يدور خلف أبواب البيت الأبيض المغلقة.. كان الصحفيون يجلسون في غرفهم الفاخرة بينما هو يواجه أهوال الحرب الأهلية في إسبانيا، وفي إيران يختطفه أنصار آية الله كاشاني ليقابل زعيمهم الروحي الذي اعتبر أن هيكل أهانه. لو قرأت كتاب (إيران على حافة البركان) الذي كتبه هيكل قبل الثورة وقبل لقاء عبد الناصر وقبل كل شيء، لعرفت لماذا استحق الرجل كل هذا المجد.
لكن هؤلاء السادة لا يقرأون كما هو واضح.. فقط هم يعيشون وسط أبخرة الحقد الصاعدة للرءوس ومئات الكتب غير الموثقة التي تحكي كلامًا على غرار (كنت جالسًا مع سيد الشماشرجي عندما دخل علينا عبد الحميد جودة.. هناك كاذبون يزعمون أنني كنت جالسًا مع الششماوي، لكن هؤلاء مغرضون يتلقون مالاً من الخارج).
دعك من كتابة كلمة (أستاذ) بين قوسين تهكميين بمعنى أنه ليس أستاذًا ولا حاجة، وتأمل هذه الكلمات المنشورة على أحد مواقع الإنترنت: (لأن مصطفى أمين كان الصحفي المصري الوحيد الذي يخافه هيكل في زمن عبد الناصر، وكتب عنه بشماتة بعد سجنه، رغم أنه أستاذه، وقد برأ القضاء المصري مصطفي أمين بعد زوال حكم هيكل وعبد الناصر بحيثيات تاريخية شهيرة). هذا كلام يعتمد طبعا على ضعف ذاكرة القارئ؛ لأن السادات رفض مرارا إطلاق سراح مصطفى أمين، ثم أطلق سراحه بعفو صحي.
على عكس مما يقول الكثيرون قدم هيكل كتاب (بين الصحافة والسياسة) الذي يحكي بالتفصيل والوثائق قصة اتهام مصطفي أمين بالتجسس، قدمه في حياة الرجل وحياة أطراف كثيرة، داعيا من يملك أن يسكته أن يرد.. بدا لحظتها كفارس يدور حول الأسوار طالبا أن ينزل له أحد الكماة أو الصناديد للنزال، لكن أحدا لم ينزل مفضلين ترك الأمور تُنسى من تلقاء نفسها.. هناك معلومة - قرأناها مائة مرة في تلك الأيام - أن رجل المخابرات مايلز كوبلاند اتهم هيكل في كتبه بأنه رجل مخابرات.. ليس لكوبلاند سوى كتابين، ولم يذكر فيهما هيكل سوى مرة واحدة باعتباره صديق عبد الناصر.. الحقيقة أن أحدًا لا يقرأ أو يتحقق.. تهمة العمالة جاهزة وسهلة جدًا، لأنه لا يوجد شرفاء في رأي هؤلاء القوم، فلابد أن هيكل قد دفع ثمن مقالي هذا.
يقول ذلك الموقع كذلك: (مشكلة هيكل الأساسية على الصعيد المهني أنه اعتمد في بناء مجده وخبرته المهنية على شراكته غير المعلنة لعبد الناصر.. غير أن هذا بالضبط ما كان سببا للضعف المهني لهيكل، لأن اعتياده الحصول على المعلومة الخطيرة والسهلة أورثه الكسل الذهني وضعف عملية المران في التحليل السياسي، وحتى الآن إذا حاول اقتحام أي مشكل مصري داخلي أو عالمي جديد لتحليله أو طرح رؤيته تجاهه أتى بالعجائب المثيرة للسخرية، مثل حديثه المضحك عن مرتكبي أحداث سبتمبر بأنهم ناشطون من الصرب). أنت رأيت وقرأت (هيكل).. تكلم كما شئت عن الصدق أو الأمانة في العرض، لكن هل هذا رجل کسول ذهنيًا وضعيف في التحليل السياسي حقًا؟ على فكرة كلامه عن أحداث سبتمبر هو نقل لما كان يدور في أوساط أوروبية وليس كلامه هو، ثم يقول الموقع ذاته: (وعندما صدرت مجلة وجهات نظر وجرب أن يكتب فيها مقالًا شهريًا تحليليًا كشف ضحالته الشديدة في هذا المجال). هل حقًا قرأت مقالاته في وجهات نظر يا أستاذ؟ قلها بأمانة.. هذه المقالات تعتبر ذروة نضج هيكل واكتمال رؤيته للعالم، ويجب ألا يكون عدوك ضحلًا لأنه عدوك.
أما عن برنامج هيكل الأسبوعي في قناة الجزيرة - والكلام لرئيس تحرير الموقع ذاته - فقد تصور الرجل (أنه سيقيم الدنيا ولن يقعدها، غير أن البرنامج مر عليه سنوات وهو «بارد» و«عادي» وقريب الشبه بالبرنامج التليفزيوني الشعبي حكاوي القهاوي). هل حقًا تصور هيكل أن برنامجه سيقيم الدنيا ولا يقعدها وأن الشوارع ستخلو ساعة إذاعة البرنامج وتغيب الفتيات عن وعيهن ويتشنج الرجال من الوجود؟ لا أعتقد أنه بهذه السذاجة.. هذا تحليل عقلاني هادئ للتاريخ كما رآه. فشاهده أو اقلب القناة.. أنت حر يا أخي!
طبعًا تنهمر التعليقات المؤيدة حتى تحسب أن مصر كلها صارت رجلاً واحدا يتمنى إعدام هيكل في ميدان عام.. هذا مطلب جماهيري إذن، أرسلت ثلاثة تعليقات بثلاثة أسماء تحاول الحيادية فلم ينشر حرف منها بالطبع.
قلت لك إنها مأدبة.. مأدبة ممتازة والدعوة عامة.. فقط عليك أن تثبت أن لديك أسنانًا حدادًا وقدرًا لا بأس به من الغل والحقد المهني، وقدرة على قلب الحقائق واتهام الشرفاء بالعمالة والموهوبين بالسطحية.. فقط تعال تجد ما يسرك!